ما ارتكبته إسرائيل في أريحا عملية قرصنة بكلّ معنى الكلمة، لكنّ الملفت وسط كل ما جرى كان ذلك التفهّم العالمي للتصرف الإسرائيلي وهو ردّ فعل لا يمكن إلاّ أخذه في الاعتبار في هذه المرحلة الدقيقة التي تمرّ فيها القضية الفلسطينية.
في استطاعة الفلسطينيين تجاهل ردّ الفعل العالمي، بما في ذلك التواطؤ الأميركي والبريطاني مع الحكومة الإسرائيلية والذي تمثّل في انسحاب الحراس الأميركيين والبريطانيين من سجن أريحا قبيل الاجتياح الإسرائيلي له. وفي استطاعتهم الصراخ بأعلى صوت من أجل إدانة العربدة الإسرائيلية، إلا أن ذلك لا ينفع في شيء، ما ينفع وقفة مع النفس والسعي إلى فهم الواقع والمعطيات الاقليمية والدولية والتوقف عن الادلاء بتصريحات لا تخدم القضية، إنها تصريحات تعطي الضوء الأخضر لإسرائيل كي تستمر في تنفيذ مشروع استعماري واضح المعالم يقضي برسم حدود الدولة اليهودية من جانب واحد.
لا شك أن ايهود اولمرت الذي خلف ارييل شارون في رئاسة الحكومة في انتظار الانتخابات العامة في الثامن والعشرين من الشهر الجاري، استغل الظروف الراهنة للإقدام على ما أقدم عليه والمزايدة على منافسيه في الانتخابات، واستطاع اولمرت وضع مجموعة من السجناء الفلسطينيين كانوا في أريحا بموجب اتفاق ذي طابع دولي في سجن إسرائيلي. وأبرز هؤلاء اللواء فؤاد الشوبكي الذي كان أحد القريبين من ياسر عرفات، رحمه الله، والسيد أحمد سعدات الأمين العام لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". وإذا كان من أمر لا بد من تذكّره فهو أن ياسر عرفات حمى الشوبكي وسعدات بجسده وأصرّ على التوصل إلى اتفاق يبقيهما خارج سجن إسرائيلي على الرغم من أن الأول يعتبر متورطاً في قضية السفينة "كارين ـ أ". وكانت السفينة تحمل أسلحة إلى الفلسطينيين واعترضتها إسرائيل في البحر الأحمر بعد معلومات وفرتها لها الإدارة الأميركية، وتسبب الحادث في حينه في غضب أميركي على "أبو عمار" والى قطيعة بينه وبين واشنطن. أما سعدات فهو متهم بالوقوف وراء قتل وزير إسرائيلي انتقاماً من اغتيال إسرائيل سلفه "أبو علي مصطفى".
استطاع ياسر عرفات في حينه مقاومة الضغوط التي مورست عليه وتوصل إلى اتفاق برعاية دولية يقضي بسجن الشوبكي وسعدات وآخرين من "كتائب الأقصى" تطالب بهم إسرائيل في أريحا في انتظار يوم يطلقون بموجب تسوية تأتي في إطار اتفاق شامل بين السلطة الوطنية والحكومة الإسرائيلية.
من هذا المنطلق، يمكن القول إن الاتفاق الذي عقدته السلطة الوطنية مع إسرائيل بضمانة أميركا وبريطانيا كان في مصلحة الشوبكي وسعدات، خصوصاً في حال أخذنا في الاعتبار موازين القوى على الأرض إضافة إلى القطيعة التي بدأت وقتذاك تتكرّس بين الإدارة الأميركية من جهة وياسر عرفات من جهة أخرى. لقد أدّت عسكرة الانتفاضة في أعقاب فشل قمة كامب ديفيد صيف العام2000 بين الرئيس كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك وياسر عرفات إلى تدهور الوضع الفلسطيني، واستغلت الحكومة الإسرائيلية كل الفرص التي توفرت من أجل السعي إلى عزل ياسر عرفات وممارسة كل أشكال الإرهاب المنظم الذي اسمه إرهاب الدولة. والواقع أن ما حصل في أريحا استمرار لهذه السياسة الإرهابية مع فارق أن العالم خطا خطوة أخرى على طريق تغطية ما ترتكبه إسرائيل. لماذا حصل ذلك؟ لا بد من امتلاك حدّ أدنى من الشجاعة للقول إن موقف "حماس" الغامض من الاتفاقات التي وقّعتها السلطة الوطنية الفلسطينية يشكّل استمراراً للسياسة الخاطئة التي تمثّلت بقرار عسكرة الانتفاضة. لقد جرّ هذا القرار، باعتراف رئيس السلطة الوطنية السيّد محمود عباس، الويلات على الشعب الفلسطيني، والأكيد أن قرار "حماس" القاضي بالتمييز بين اتفاقات تنوي احترامها وأخرى ترفضها، بعد تشكيل الحكومة الفلسطينية، سيجر مزيداً من الويلات على الفلسطينيين، وكلّ ما يمكن قوله في هذا المجال إن اقتحام سجن اريحا ليس سوى بداية لما تبدو إسرائيل على استعداد للقيام به بتغطية دولية.
في النهاية، إن الاتفاقات الدولية وغير الدولية التي توصلت إليها السلطة الوطنية نتاج موازين معينة للقوى لا يمكن تجاهلها. ولو كان "أبو عمار" قادراً على حماية مناضل مثل فؤاد الشوبكي، لما اضطر إلى القبول أخيراً بأن يكون الرجل في سجن أريحا، في انتظار أيام أفضل وأقل إجحافاً بحق الشعب الفلسطيني. هذا ليس وقت المزايدات، إنه وقت للتفكير العميق في الدروس التي يمكن أن يستفاد منها بعد الذي حصل في أريحا. وبكلام أوضح، يفترض في "حماس" إعادة النظر في خطابها السياسي والابتعاد قدر الإمكان عن الشعارات التي لا علاقة لها بالواقع. وما لا يمكن تجاهله أن القضية الفلسطينية تمر في مرحلة شديدة الدقة والخطورة، خصوصاً في ضوء الكارثة التي يشهدها العراق، إنها قضية تحتاج إلى أكبر تعاطف عالمي ممكن وإلى كسب أكبر عدد من الأصدقاء في كل أنحاء العالم خصوصاً في أوروبا وأميركا، والأكيد أن ليس بموقف غامض من الاتفاقات التي وقعتها السلطة الوطنية يمكن كسب مزيد من الأصدقاء!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.