في غياب القدرة على إيجاد حلول جذرية للمشاكل التي يعاني منها لبنان، يبدو واضحاً أن البلد يتجه الى نوع من الهدنة في ضوء مؤتمر الحوار الوطني الذي دعا إليه رئيس مجلس النواب السيد نبيه بري. والهدنة تظل أفضل من أي شيء آخر في هذه المرحلة وذلك لسببين على الأقل. الأول أن الهدوء أفضل من أي نوع من التوتر، حتى لو كان التوتر مقتصراً على التراشق الكلامي. والآخر أن الهدنة أفضل من التوصل الى أي اتفاقات أو تفاهمات لا يمكن إلا أن تكون تجاوزاً لاتفاق الطائف وتعدياً عليه وعلى جوهره.
بكلام أوضح، لا مصلحة للبنان واللبنانيين في التوصل الى أي نوع من الاتفاقات تكرس وجود السلاح في يد أحد الأحزاب اللبنانية بحجة أن المقاومة ليست ميليشيا. مثل هذا الكلام يشكل في الواقع إلغاء لاتفاق الطائف الذي كان واضحاً كل الوضوح في تأكيد السيطرة الكاملة للسلطة اللبنانية على الأراضي اللبنانية وضرورة نزع سلاح الميليشيات وقبل ذلك السلاح الفلسطيني. وفي غياب الرغبة في التفاهم على ضرورة احترام الطائف، يبدو أكثر من منطقي أن يرفض أطراف لبنانيون الدخول في اتفاقات جديدة لا تؤدي في نهاية المطاف سوى الى تكريس واقع فشلت سنوات الوصاية السورية في تكريسه.
إن أي عاقل في لبنان يرفض المس باتفاق الطائف الذي كان اتفاقاً بين اللبنانيين حظي برعاية عربية ودعم دولي من مجلس الأمن. هذا الاتفاق يشكل ضمانة ليس في استطاعة أي لبناني التفريط بها خدمة لهذا الطرف الاقليمي أو ذاك. أكثر من ذلك، إن أفضل ما يمكن عمله الآن بدل البحث في كيفية تجاوز الطائف، البحث في الأسباب التي حالت دون تطبيقه من أجل اكتشاف الثغرات التي في الاتفاق والسعي الى سدها.
في النهاية، إما أن يكون لبنان وطناً لجميع اللبنانيين وإما أن يستمر "ساحة" للصراعات الاقليمية عن طريق إبقاء الجنوب جرحاً نازفاً بحجة أن المقاومة يجب أن تستمر على الرغم من اعتراف رئيس الجمهورية في رسالة الى مجلس الأمن بأن إسرائيل انسحبت الى "الخط الأزرق" وهي نفذت عملياً القرار الرقم 425 الذي كان لبنان يعتبر نفسه معنياً به.
نعم إن مزارع شبعا لبنانية، وعلى لبنان أن يستعيد المزارع التي احتلتها إسرائيل في العام 1967 عندما كانت تحت السيطرة السورية. وهذا يعني في طبيعة الحال أن القرار 242 ينطبق على المزارع، والى إشعار آخر، أن لبنان لا يعتبر نفسه معنياً بهذا القرار، اللهم إلا إذا كان مقتنعاً بأن عليه أن يكون صاحب الجبهة الوحيدة المفتوحة مع إسرائيل، فيما النظام السوري المعني بالأرض التي احتلت في العام 1967 لا يطلق ولو رصاصة واحدة في اتجاه العدو الإسرائيلي.
يكتفي النظام السوري كعادته بالتمسك بسلاح المقاومة في لبنان وبإعطاء شهادات في الوطنية الى بعض اللبنانيين وحجبها عن آخرين. وكأن الوطنية تختصر بإبقاء لبنان في أزمة مستمرة تعويضاً عن غياب القدرة على مواجهة إسرائيل. هل من خدمة تقدم الى إسرائيل أكبر من خدمة بقاء لبنان "ساحة" للصراعات الاقليمية؟ من قال إن إسرائيل تعترض على الوضع القائم في جنوب لبنان حالياً؟ أوليست إسرائيل التي أصرّت على بقاء الفدائيين الفلسطينيين في جنوب لبنان عندما وافقت في العام 1976 وفق شروط محددة على اقتراح هنري كيسينجر القاضي بالسماح للجيش السوري بدخول الأراضي اللبنانية؟ أليست إسرائيل التي رسمت "الخطوط الحمر" للوجود العسكري السوري في لبنان وحرصت على أن يبقى الجنوب خارج السيطرة، أي ملعباً للتراشق المدروس بينها وبين الجانب الفلسطيني الذي استند دائماً الى اتفاق القاهرة السيئ الذكر لتبرير هذا التراشق الذي جرّ الويلات على البلد الصغير؟
هذا ليس وقت إعطاء دروس في الوطنية، إنه وقت تفادي تكرار تجارب الماضي القريب التي استخدم فيها لبنان ليعوّض الآخرين عن تقصيرهم في كل المجالات. فمن يريد الحديث، بنوع من التبجح، عن المقاومة في لبنان يستطيع إذا شاء، وإذا كان قادراً على دفع الكلفة، فتح جبهة مع إسرائيل بدل استنزاف لبنان واقتصاده بما يصب في النهاية في خدمة إسرائيل... هذا هو الواقع الذي يُفترض في المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني مواجهته بشجاعة. إنه واقع يدعو الى رفض أي نوع من الاتفاقات والتفاهمات الجديدة التي تبرر وجود أي سلاح خارج سلاح الشرعية اللبنانية ممثلة بالجيش وقوى الأمن الداخلي.
لا يمكن بالطبع الدعوة الى نزع سلاح المقاومة بالقوة، فهذا أمر مرفوض، فضلاً عن أن لا أحد قادراً على ذلك في حال لم يقتنع الحزب نفسه بالفكرة. لكن المقاومة ممثلة بـ"حزب الله" مدعوة أكثر من أي وقت لتفهم أن الواقع اللبناني لا يسمح باتفاق جديد من نوع اتفاق القاهرة، حتى لو كان الطرف المعني به لبنانياً، بل لبنانياً أكثر من أي طرف آخر، فما يفترض في كل لبناني تذكره هو أن لا مكان يذهب إليه أفضل من لبنان السيد الحر المستقل فعلاً وليس بالشعارات التي يرفعها بعض المشعوذين المستعدين لبيع كل المبادئ من أجل موقع معيّن!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.