كان يوم الثلاثاء الماضي الواقع في الثامن والعشرين من شهر شباط يوماً مهماً في العراق، أقلّه على صعيدين. الأول محاكمة صدام حسين ومساعديه، ذلك أن المحاكمة التي كانت تبدو في مصلحة الرئيس المخلوع اتخذت منحى جديداً في اتجاه مغاير. أما الصعيد الآخر فكان سلسلة إشارات تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن البلد في خضمّ حرب أهلية يصعب عليه الخروج منها. وما يزيد في صعوبة الخروج من هذه الحرب، التي لا يزال بعضهم في مرحلة التحذير منها، الأزمة السياسية العميقة التي تعيق تشكيل حكومة من جهة والتباينات الواضحة بين الأكراد من جهة وأحزاب شيعية معينة من جهة أخرى.
على صعيد محاكمة صدام، أظهر الادعاء أخيراً أن الرجل كان مجرماً بكل معنى الكلمة وأنه أمر بإعدام مئة وثمانية وأربعين من مواطنيه من سكان بلدة الدجيل إثر تعرضه لمحاولة اغتيال حصلت خلال زيارة لها في تموز من العام 1982. لم يعرف الرئيس المخلوع معنى العدالة وكان بين الذين أمر إعدامهم عدد لا بأس به من المراهقين. للمرة الأولى جلس صدام في قاعة المحكمة وقد بدا عليه الذهول، خصوصاً بعد إخراج الادعاء وثائق بتوقيعه عليها أوامر بإعدام أشخاص لم يحاكموا إلا صورياً. وكانت مفاجأة المفاجآت أن أربعة من الذين وردت أسماؤهم في اللائحة، نفّذ بهم حكم الإعدام "سهواً". نعم كان هناك من يُعدم "سهواً" في جمهورية صدام التي قضت على نسيج المجتمع العراقي وجعلته مهيأً تماماً للمرحلة الراهنة. كانت جلسة الثامن والعشرين من شباط نقطة تحوّل في محاكمة صدام الذي لم يستطع إنكار أنه وقّع قرارات الإعدام "شنقاً حتى الموت" في حق هذا العدد الكبير من مواطنيه في حين أن أي رئيس دولة يمتلك حداً أدنى من المشاعر الإنسانية يسعى، حتى لو تعرّض لمحاولة الاغتيال، الى حصر المسؤولية بأقل عدد ممكن من الأشخاص بدل ممارسة سياسة الانتقام من بلدة بكاملها بسبب فعل ارتكبه أشخاص معينون. ولكن ما العمل عندما يكون المسؤول عن البلد متخلّفاً لم يصل الى السلطة إلاّ بواسطة الدم والدمار ولا يؤمن سوى بإلغاء الآخر من أجل البقاء في الحكم؟
المؤسف أن المشهد الذي كان يمكن أن يبعث أملاً في أن الوضع العراقي مقبل على أيام أفضل من تلك التي عاشها البلد في عهد صدام، تلاشى في ظل الأحداث التي شهدتها مدن العراق ومناطقه المختلفة يوم الثامن والعشرين من شباط. ففي اليوم الأول الذي رفع فيه حظر التجول بعد حادث تفجير قبة ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء وما تلا ذلك من صدامات واعتداءات على حسينيات ومساجد، بدأت وسائل الإعلام الأجنبية، بما فيها الوكالات العالمية، تستخدم لغة جديدة في الحديث عمّا يدور في العراق. وعلى سبيل المثال وليس الحصر قالت وكالة "أسوشيتد برس" في نبأ لها من العاصمة العراقية بتاريخ 28/2/2006 أن "سنة وشيعة تبادلوا القصف وقذائف مورتر مستهدفين خصوصاً مواقع دينية في بغداد، واستمروا في ذلك ليل الثلاثاء ما أدى الى مقتل ثمانية وستين شخصاً". ولم تكن أحداث اليوم التالي أفضل، بل استمر القصف والتفجيرات كما بدأ الكلام العلني عن تهجير عائلات من أحياء معيّنة بسبب انتمائها المذهبي!
بهذه اللغة، بدأت وسائل الإعلام العالمية تتحدث عن الوضع العراقي. إنه تطوّر مثير للقلق، خصوصاً أن الأزمة السياسية في طريق مسدود. وكان أفضل تعبير عن الأزمة، إعتراض رئيس الجمهورية جلال طالباني على الزيارة التي قام بها في اليوم ذاته رئيس الوزراء ابراهيم الجعفري لتركيا من دون استشارة أي طرف آخر في السلطة. وكان يمكن لطالباني التساهل مع الجعفري، على الرغم من أن زيارته مخالفة للأعراف المتبعة في العراق، لو لم تكن حكومته حكومة تصريف أعمال وأن البلد وسط تجاذبات سياسية لا تقل حدّة عن التوتر الأمني كان متوقعاً أن تساهم محاكمة صدام، في ضوء التطور الذي شهدته يوم الثامن والعشرين من شباط، في جعل العراقيين يسعون الى طيّ صفحة الماضي. لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. طغت الأحداث الأمنية والأزمة السياسية المتجدّدة على المحاكمة، وبات العراق كله أكثر في مواجهة طريق مسدود. طريق لا يمكن إلاّ أن يقود الى انفجار كبير قد لا تسلم منه وحدة البلد، خصوصاً أن الأكراد على استعداد أكثر من أي وقت للذهاب بعيداً جداً في مشروع الفيديرالية، فيما الميليشيات الشيعية تبدو جاهزة لكل أنواع الحلول الجذرية في مواجهة الإرهاب الذي تمارسه المجموعات السنية المتطرفة...
لا شيء يدعو الى التفاؤل في العراق، بما في ذلك احتمال أن يلقى صدام حسين أخيراً الجزاء العادل الذي يستحقه، وهو ما انتظره الشعب العراقي سنوات وسنوات! هل كُتب على العراقيين ألاّ يذوقوا معنى الفرح أو على الأقل أن يدركوا ما هو طعمه؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.