كل ما يمكن قوله في ضوء انفلات الغرائز على نحو لا مثيل له في العراق، أن ما تحصده الادارة الأميركية هذه الأيام، نتيجة مباشرة لما زرعته في البلد. كل ما في الأمر أن السحر انقلب مرة أخرى على الساحر على غرار ما حصل في الماضي القريب في أفغانستان، انقلب أسامة بن لادن على الذين صنعوه ودعموه... مع فارق أنه لم يوجد بين الدول المجاورة لأفغانستان، ربما بسبب فقرها ووعورة أراضيها وصعوبة التعاطي مع القوى المهيمنة على البلد، من يستغل عملية إسقاط نظام "طالبان" المتخلف، في المقابل، وجد من يستفيد من الاحتلال الأميركي للعراق ومن اسقاط النظام العائلي ـ البعثي الذي أقامه صدام حسين أفضل استفادة.
قبل كل شيء، لا مفر من الاعتراف بأن هناك حرباً أهلية ذات طابع مذهبي تدور في العراق حالياً. والسؤال المطروح هو ذاته منذ أشهر عدة: هل يمكن وقف الحرب الأهلية، أم فات أوان ذلك؟ ومن في حاجة الى مثل جديد يؤكد ذلك، يستطيع العودة الى الأحداث التي شهدها البلد قبل أيام خصوصاً العمل الارهابي المدان المتمثل في تفجير ضريح الامامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء وردود الفعل التي تلت هذا العمل الشنيع وقد شملت اعتداءات على مساجد لأهل السنة في بغداد خصوصاً في أحياء مختلطة. إذا لم تكن هذه حرب أهلية، فما هي إذاً الحرب الأهلية؟
يأتي هذا التطور الخطير الخطير في وقت تواجه عملية تشكيل حكومة عراقية جديدة صعوبات حقيقية بعدما تدخلت طهران بشكل مباشر وفرضت على الائتلاف الشيعي ترشيح ابراهيم الجعفري ليعود الى موقع رئيس الوزراء بدل استبداله بعادل عبد المهدي الشخصية المقبولة القادرة على إيجاد حد أدنى من التوافق إن مع الأكراد أو مع السنة العرب.
جاء فرض طهران للجعفري على حساب عبد المهدي في ضوء حسابات للنظام الايراني مرتبطة الى حد كبير بالمواجهة التي تدور حالياً بينه وبين المجتمع الدولي. ومحور المواجهة البرنامج النووي التي تصر طهران على السير فيه من دون تقديم ضمانات كافية لجهة أنها لا تنوي انتاج سلاح نووي. كل ما في الأمر أن النظام الايراني يعتبر العراق ورقة أساسية في هذه المواجهة ويعتبر خصوصاً أنه الطرف الأقوى في العراق وأن جنود أميركا وبريطانيا الذين نفذوا له حلمه القديم القاضي بإسقاط نظام صدام، تحوّلوا مجرّد رهائن لديه.
مثل هذا المنطق صحيح وسليم الى حد كبير. نظراً الى أن كل خطوة أقدمت عليها الادارة الأميركية منذ بدء الاعداد لاحتلال العراق، صبت في مصلحة النظام الايراني. في الامكان إيراد عشرات الأمثلة عن الأخطاء التي ارتكبها مسؤولو الادارة الأميركية في العراق وهي أخطاء يسعون الى إصلاحها الآن بعد فوات الأوان عن طريق السعي الى إعادة التوازن السياسي الى البلد. كيف يمكن السعي الى إعادة مثل هذا التوازن السياسي بعدما صارت ميليشيات في السلطة؟ صارت هناك وزارات تابعة لأحزاب معينة تمتلك ميليشيات بكل معنى الكلمة وتفرض على المواطن العراقي نمط حياة معيناً. هل يدرك الأميركيون ومعهم البريطانيون أن جنوب العراق صار أقرب الى أن يكون محافظة إيرانية من أي شيء آخر... وأن ما ينطبق على جنوب العراق، ينطبق الى حد كبير على مناطق وأحياء معينة في بغداد؟ هل يدرك الأميركيون والبريطانيون أن الارهاب الذي تمارسه منظمات سنية متطرفة يسمى المنتمون إليها بـ"التكفيريين"، يقابل بارهاب من نوع آخر تمارسه ميليشيات بعضها تابع لأحزاب معينة والبعض الآخر لوزارات معينة، ميليشيات تخطف وتقتل على الهوية المذهبية بواسطة "فرق الموت"؟
من حسن الحظ أنه لا يزال في العراق رجال دولة، مثل رئيس الجمهورية جلال طالباني، يدعون الى التروي وتهدئة الخواطر واعتماد المنطق والاعتدال بعيداً عن أي نوع من التهور. لكن ذلك لا يبدو كافياً لوقف الحرب الأهلية التي تجعل من الصعب تشكيل حكومة جديدة متوازنة بعد كل الأخطاء التي ارتكبها الأميركيون الذين يحصدون ما زرعوه منذ ما قبل دخول قواتهم الى العراق واحتلال بغداد وإسقاط صدام وزمرته.
زرع الأميركيون بذور الفتنة التي ارتدت عليهم في العراق، زرعوا بذور المذهبية غير آبهين بمخاطر ذلك على بلد متعدد الأديان والطوائف والقوميات. المشكلة أن العراقيين من كل الطوائف والمذاهب يجنون حالياً الكوارث ولا شيء غير الكوارث جراء سياسة أميركية استسهلت مغامرة العراق ولم تأخذ في الاعتبار أن من السهل استخدام كل ما من شأنه جعل الغرائز تنفلت، إلا أن من الصعب إعادة التحكم بها بعدما أفلتت من عقالها. ان الجريمة الكبرى لنظام صدام حسين تتلخص بقضائه على النسيج الاجتماعي للعراق. ما فعله الأميركيون أنهم أكملوا مهمته لا أكثر ولا أقل بدليل ما نشاهده اليوم في المدن العراقية من مآس تعود بالذاكرة الى تاريخ قديم كان الاعتقاد السائد أن العراقيين تخلصوا من صفحاته السود.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.