ما يمكن قوله عن الخطاب الأخير للرئيس بوش الابن الذي رفض فيه تحديد موعد للانسحاب العسكري من العراق هو أن الرئيس الأميركي يبحث منذ الآن عن مخرج من المأزق الذي أدخل بلده فيه. والأمر الذي يرفض بوش الاعتراف به هو أنه لا مفر من الانسحاب من العراق بعدما تكفّل الغزو الأميركي للبلد في اندلاع حرب أهلية ليس معروفاً إلى أين ستقود البلاد.
لم يعد هناك مكان للجيش الأميركي في العراق، علماً بأن هناك فرصة للخروج من الحرب الأهلية في حال أدت الانتخابات التي ستجري في الخامس عشر من الشهر الجاري إلى قيام أكثرية برلمانية تمثل التنوع العراقي وترفض طغيان فئة على فئة أخرى أي أن يعود العراق إلى ما كان عليه في عهد صدام حسين العائلي ـ البعثي الذي سيطرت فيه فئة محددة على مقدرات الوطن واحتكرت السلطة والثروة واضطهدت الشيعة والأكراد وحتى السنّة العرب الذين رفضوا الطاعة العمياء لنظام "المقابر الجماعية".
فشل المشروع الأميركي فشلاً ذريعاً، أقله إلى الآن، لا لشيء سوى لأنه أتاح انفلات الغرائز التي لم تعد تحركها سوى فكرة الانتقام ولا شيء غير الانتقام الذي بات الهاجس الوحيد لدى فئات واسعة من العراقيين. لم يعد مجال للعقل والتعقّل، وكل من أراد الحديث عن عراق حديث وديموقراطي يسوده التسامح، وجد نفسه أمام آذان صماء على غرار ما حصل أخيراً مع الرئيس الموقت جلال طالباني الذي سعى إلى أن يكون رئيساً لكلّ العراقيين.
إن الرهان على الانتخابات يمكن أن يكون في محله، خصوصاً في حال انبثقت عنها حكومة جديدة قادرة على استخدام نواة الجيش الجديد في عملية تستهدف حماية كل العراقيين وليس قسماً منهم كما هو حاصل الآن. والأهم من ذلك، أن يتمكن الجيش الجديد من الحلول مكان الميليشيات الحزبية التي تتصرّف على هواها من خلال منطق الانتقام، والسعي في الوقت ذاته إلى القضاء على الإرهاب الذي يمارس حالياً في حق العراقيين أولاً بواسطة مجموعات سنّية متطرّفة تنتمي إلى مدرسة بن لادن وأشكاله من الإرهابيين الصغار والكبار الذين حوّلوا أرض العراق مرتعاً للتطرّف والمتطرّفين من كل الأشكال والألوان.
لم يعد الوضع العراقي الناشئ عن احتلال البلد خافياً على القادة العسكريين الأميركيين الذين باتوا يدركون أن هذه الحرب لم تكن في حاجة إلى خطط عسكرية فحسب، لكنها كانت في حاجة أيضاً إلى تفكير سياسي أبعد ما يكون عن التبسيط الذي ميّز تصرفات المحافظين الجدد الذين تسعى وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى الحد من الأضرار التي ألحقوها بالولايات المتحدة في العراق وغير العراق حيث أهدوا انتصارات مجانية إلى إيران التي باتت تسيطر عملياً على الأرض العراقية على الرغم من وجود نحو مئة وخمسين ألف جندي أميركي عليها.
هل يمكن للانتخابات أن تشكل مخرجاً من المأزق الأميركي في العراق؟ لا بد من انتظار نتائجها ومدى جدية القوى الوطنية العراقية في تجاوز الانقسامات المذهبية والمناطقية والقومية تمهيداً لإيجاد مخرج من الحرب الأهلية. ولكن ما يبدو جلياً هو أن هناك قوى عراقية بدأت تحضر نفسها منذ الآن لمرحلة يكون فيها العراق مقسماً إلى حد تتخذ فيه القرارات المتعلقة بالنفط على نحو مستقل، وإلا كيف يمكن فهم القرار الذي اتخذته السلطات في كردستان والقاضي بإعطاء ترخيص لشركة نروجية بالتنقيب عن النفط؟، أو ليس ذلك دليلاً على أن فئات كردية تعمل منذ الآن من أجل الاستقلال؟.
أكثر من ذلك، أليس ذلك دليلاً على أن هناك من تخلى عملياً عن فكرة الدولة المركزية وأن الفيديرالية مجرد غطاء لترتيب كل قومية أو فئة أمورها بالطريقة التي تناسبها؟.
في النهاية ما الذي سيمنع المسيطرين على محافظات معينة في الجنوب من الاتفاق مع شركات نفطية على رخص تنقيب بغض النظر عن رأي الحكومة في بغداد؟، وماذا يستطيع الجيش الأميركي عمله أمام هذا الوضع الذي ساهم فيه؟.
في الواقع إن الرئيس بوش الابن في حاجة إلى معجزة لإعادة لملمة الوضع في العراق، كل ما يستطيع عمله في مواجهة القادة العسكريين الذين يشكون السياسيين بعدما أوصلوهم إلى حرب لا يمكن ربحها هو إعداد خطة للانسحاب. وهذه الخطة لا يبحث عنها العسكريون وحدهم، بل يبحث عنها أيضاً الحزب الجمهوري الذي يخشى كارثة في الانتخابات المقبلة لتجديد عضوية قسم من الكونغرس في تشرين الثاني المقبل. إنها مهلة كافية ليبحث الرئيس الأميركي عن مخرج يحفظ له ولحزبه بعضاً من ماء الوجه أمام الديموقراطيين الشامتين بإدارة خاضت حرباً أدت إلى مقتل 2100 أميركي إلى الآن من دون أن تمتلك خطة واضحة لمستقبل العراق باستثناء الشعارات الفارغة التي فحواها أن الديموقراطية تفرض بالقوة في بلد لم يذق طعمها منذ ذلك الانقلاب المشؤوم في 14 تموز من العام 1958.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.