تأخذ السلطات العراقية على السيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية تحذيره من اندلاع حرب أهلية في العراق. واتخذت هذه السلطات، التي لا تريد أخذ العلم بأن الحرب الأهلية بدأت فعلاً وهي تحتاج إلى تحذير من عمرو موسى وغيره من الشخصيات العربية كي لا تقف، موقفاً سلبياً من أي مبادرة عربية تستهدف تحقيق "مصالحة وطنية" في العراق.
ربما كانت السلطات العراقية الجديدة على حق في موقفها من "المصالحة الوطنية" نظراً إلى أن للمصالحة شروطها بما في ذلك اعتراف الطرف القوي بأن الطرف الآخر المطلوب إجراء مصالحة معه يمثل شيئاً.
إلى الآن، لم يصدر عن الطرف القوي الذي يتحكم بلجنة صياغة الدستور وبكل مفاتيح السلطة في البلد، ما يشير إلى الاستعداد لعقد تسويات. كل ما في الأمر أن الطرف القوي يبدو على استعداد لصفقة مع الأكراد تأتي على حساب السنّة العرب الذين باتوا بلا قيادة واعية للأسف الشديد. ويرتكب السنّة العرب في غياب هذه القيادة أخطاء في غاية الفظاعة في مقدمها اللجوء إلى الإرهاب الذي يعبّر عن افلاس سياسي حقيقي لا يخدم العراق والعراقيين، ولا يخدم خصوصاً الذين يلجأون اليه.
يبدو الموضوع المطروح في العراق حالياً غير مرتبط بالمصالحة الوطنية وذلك لسبب في غاية البساطة يتمثل في غياب الطرف الباحث عن مصالحة حقيقية تأخذ في الاعتبار أن موضوع التعاطي مع السنّة العرب لا يمكن أن يرتدي طابع التعاطي بين غالب ومغلوب وأن في استطاعة الغالب فرض شروطه كاملة، حتى لو جاء انتصاره بفضل الدبابة الأميركية والبريطانية وبفضل غباء نظام صدام حسين.
ثمة شروط للمصالحة الوطنية لا بد من توفرها كي يكون في الإمكان طرح مثل هذا الموضوع، وفي ضوء عدم وجود سلطة عراقية على استعداد للبحث في بديهيات الشروط المطلوبة، تبدو مشكلة العراق في مكان آخر مرتبطة إلى حدّ كبير بعدم استيعاب معظم العرب معنى ما حصل في هذا البلد العربي منذ لحظة سقوط بغداد في التاسع من نيسان عام 2003. ما حصل بالفعل هو انهيار لخط تاريخي كان يفصل بين حضارتين عريقتين طوال مئات السنين، بين الحضارة العربية والحضارة الفارسية. ومن هذا المنطلق، لم يعد مجال للبحث في أي نوع من المصالحات في ظل موازين القوى القائمة التي فرضتها الولايات المتحدة بمشاركة بريطانية.
كل ما يمكن قوله الآن إن أميركا نفذت جانباً مما وعدت به يتعلق هذا الجانب بإعادة تشكيل الشرق الأوسط على حدّ تعبير كولن باول وزير الخارجية الأميركي في حينه الذي كان يتحدث عن أهداف بلاده في مرحلة ما بعد "تحرير العراق". أعادت القوة العظمى الوحيدة في العالم رسم خريطة الشرق الأوسط وهذا ما يفترض أن يتناوله العرب جدياً بدل البقاء في أسر تعابير لا علاقة لها بالواقع مثل "المصالحة الوطنية". إنه تعبير جميل جداً شرط أن يكون هناك من يريد مصالحة أو من يؤمن بفكرة المصالحة التي تقوم على التنازلات المتبادلة بغية الوصول إلى حل وسط ما.
تتجاوز خطورة ما حصل في العراق حدث قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين في العام 1948 وما تلاها من تشريد لأبناء الشعب الفلسطيني، ذلك أن النظام العربي استطاع على الرغم من كل الهزائم والنكبات احتواء المشروع الاستعماري الصهيوني. وبقيت إسرائيل معزولة بغض النظر عن توقيعها معاهدتي سلام مع دولتين عربيتين. أما الحدث العراقي فلا يمكن مقارنته إلا مع الوضع الذي ساد المنطقة بعد انهيار الامبراطورية العثمانية اثر انتهاء الحرب العالمية الأولى. وقتذاك أعيد تشكيل المنطقة وقامت دول جديدة بينها العراق.
هناك الآن وضع جديد في الشرق الأوسط تتحكم به توازنات جديدة ناتجة عن الاحتلال الأميركي للعراق... والمضحك ـ المبكي أن قوى معينة في لبنان وغير لبنان تعترض على أي اتصال مع أميركا أو استعانة بها لسبب محض تقني قد يساعد في كشف الذين وراء الجرائم التي تُرتكب في لبنان، لم تجد في حينه سبباً للاعتراض على التدخل العسكري الأميركي في العراق. لم تجد هذه القوى ما تعترض عليه، ما دام هذا التدخل يؤدي إلى انهيار الخط التاريخي الفاصل بين العرب والفرس وما دام يؤمن انقلاباً في موازين القوى قد يقود في مرحلة ما إلى ضعضعة النظام العربي الذي يعتبر وليد مرحلة ما بعد انهيار الدولة العثمانية.
نعم مطلوب أن يكون تدخل عربي في العراق. لكن المطلوب، أو هكذا يُفترض، أن يعالج التدخل المشكلة الحقيقية الناجمة عن ما آلت اليه الأوضاع في العراق الذي دخل بالفعل آتون الحرب الأهلية. كل ما عدا ذلك مضيعة للوقت والدوران في حلقة مغلقة اسمها "المصالحة الوطنية" في وقت لا وجود لمن يريد مصالحة!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.