من يتحدث عن أن العراق يمكن أن يكون في وضع أفضل، لا يأخذ في الاعتبار أن الحال الأمنية تتدهور يومياً وأن الأميركيين بدأوا يعدّون منذ الآن لطريقة تؤمن لهم الخروج من البلد في غضون سنة. وفي حال كنا نريد أن نكون أكثر دقة، إن التفكير في أوساط الإدارة في واشنطن منصبّ على كيفية إقناع المواطن الأميركي بأن عملية الانسحاب من العراق بدأت وأن الجنود في طريق العودة الى أهلهم... حتى لو احتاج ذلك الى وقت طويل.
إن الأميركيين يبحثون عن مخرج لسبب في غاية الوضوح. يتمثل هذا السبب بالفشل السياسي للمشروع الأميركي من جهة وبزيادة الضغوط الداخلية على الرئيس بوش الإبن من جهة أخرى. ويأتي معظم هذه الضغوط من الحزب الجمهوري الذي يفكر بالنتائج التي ستترتّب على المغامرة العراقية، خصوصاً عندما ستجري الانتخابات للكونغرس في تشرين الثاني من السنة المقبلة. إن زعماء الحزب الجمهوري يبحثون منذ اليوم عن كيفية الحد من الخسائر التي ستنجم عن عوامل عدة. يأتي في مقدم هذه العوامل التقصير الذي بدر عن إدارة بوش الإبن لدى وقوع إعصار "كاترينا" الذي دمّر مدينة سنت لويس. وما يفعله الرئيس الأميركي حالياً هو طمأنة الأميركيين الى أن إدارته ستعالج النتائج الكارثية المترتبة على الإعصار والدليل على ذلك أنه مهتم بالموضوع شخصياً وهو لا يتوقف عن التردد على المناطق المنكوبة ليكون الى جانب المواطنين الذين تعرّضوا للكارثة. هل يكفي نزول بوش الإبن الى المناطق المتضررة أو تلك التي كان يمكن أن تتضرر من الإعصار الآخر، الذي سمّي "ريتا" وتلا "كاترينا"، كي يقتنع المواطن العادي بأن رئيسه لم يكن مقصّراً؟ ترك إعصار "كاترينا" ندوباً في جسد إدارة بوش الإبن. وهي ندوب من النوع الذي قد يكون قابلاً للعلاج. ومن حسن حظ الإدارة أن "ريتا" الذي ضرب لاحقاً ولاية تكساس كان أضعف من المتوقع، فتفادت بذلك إحراجاً جديداً. لكن ذلك لم يحل دون استمرار إعصار آخر هو الإعصار العراقي الذي تبدو الإدارة مصرّة على معالجته عن طريق الأوهام أحياناً وعن طريق رفض الاعتراف بالحقيقة في أحيان أخرى. والواضح أن الوهم الأول يتمثّل في الاعتقاد أن إقرار الدستور سيحل مشاكل العراق، علماً بأنه سيعمّق الانقسامات في البلد، خصوصاً في حال التمسّك بمواد معيّنة فيه يمكن أن تستخدم لاحقاً على طريق جعل النظام في العراق شبيهاً بالنظام الإيراني الذي يعتمد نظرية "ولاية الفقيه" التي تجعل من "المرشد" السلطة العليا والمطلقة في البلد. مثل هذا الوهم الذي سيساعد الإدارة في شراء بعض الوقت، لن يغنيها في مرحلة لاحقة عن مواجهة الحقيقة، أي عن مواجهة التغلغل الإيراني في العراق وهو تغلغل يرفض المسؤولون الأميركيون مناقشته جدياً، علماً بأن غير مسؤول عربي حذّر واشنطن قبل شن الحرب من احتمال الوصول الى الوضع الراهن. إنه وضع صار فيه الجنود الأميركيون والبريطانيون مجرد رهائن لدى الميليشيات التي تسيطر عليها الأجهزة الإيرانية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. يضاف الى ذلك الإرهاب الذي تمارسه المنظمات السنّية المتطرفة بما يدل على حال من اليأس يمكن أن تحوّل مناطق عراقية معيّنة بما فيها أجزاء من بغداد مرتعاً للإرهاب والإرهابيين من نوع الزرقاوي ومن لفّ لفه. إنه وضع جعل أي سياسي عراقي يتجرأ على تناول مسألة التدخّل الإيراني موضع ملاحقة قانونية على غرار ما حصل مع وزير الدفاع السابق السيد حازم الشعلان الذي قد يكون ذنبه الوحيد أنه شيعي عراقي لا ينسى أنه عربي.
بين الرهان على الأوهام وتجاهل الواقع، تبحث القوة العظمى الوحيدة في العالم عن مخرج من المأزق العراقي يحفظ لها ماء الوجه. والملفت وسط كل ما يجري، أن معظم الذين ورّطوا الإدارة في العراق عسكرياً ولعبوا دوراً أساسياً في التخطيط للحرب والدفع في اتجاهها، صاروا الآن خارج المسؤوليات الرسمية. على رأس هؤلاء نائب وزير الدفاع السابق بول وولفويتز الذي كان أول من تحدث عن ضرورة غزو العراق. حصل ذلك في اجتماع لكبار المسؤولين في منتجع كامب ديفيد بعيد أحداث 11 أيلول 2001.
بعد الاجتماع خرج وولفويتز، الذي اصطدم في حينه بوزير الخارجية كولن باول، ليقول أن المهم بالنسبة إليه أنه زرع الفكرة في رؤوس الحاضرين وأن العراق يجب أن يلي أفغانستان في سياق الحرب الأميركية على الإرهاب. صار وولفويتز رئيساً للبنك الدولي، لكن السؤال الذي لا يزال من دون جواب كيف استطاع هو وأمثاله جر أميركا الى حرب معروفة نتائجها سلفاً ولمصلحة من كان يعمل الرجل الذي استطاع مع آخرين إقناع بوش الإبن بدخول العراق؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.