لا مفر من العودة إلى غزة والحديث مجدداً عما يدور فيها. وتبدو هذه العودة أكثر من ضرورية بعد غتيال اللواء موسى عرفات الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الفلسطينية وابن عم ياسر عرفات، رحمه الله، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني.
قبل كل شيء لا بد من الاشارة إلى أن موسى عرفات كان شخصاً مكروهاً.
لم يرتبط اسمه سوى بالفساد والفاسدين والاعمال والممارسات المسيئة الى الثورة الفلسطينية، وهي أعمال وممارسات يفضل المرء عدم الاتيان على ذكرها. كان موسى عرفات من نقاط الضعف في شخصية ياسر عرفات الذي حرص على التمسك به حتى اللحظة الأخيرة، على الرغم من كل النصائح التي كانت توجه اليه من الحريصين على حد أدنى من النقاء في صفوف العاملين في الأجهزة الفلسطينية. كان لدى "أبو عمار" ضعف تجاه الذين كان يظن أنهم يكنون الولاء المطلق له. كان يذهب الى حد مسامحة هؤلاء عن كل الأخطاء والخطايا ما دام الاعتقاد السائد لديه هو أنهم مخلصون له ولا يمكن أن يخلصوا لغيره. فكيف اذا كان هذا المخلص فرداً من أفراد العائلة؟ بالنسبة إلى ياسر عرفات لم يكن هناك تمييز بين شخصه وبين القضية. من كان ولاؤه لشخصه هو أوتوماتيكياً مخلص للقضية. كان القائد التاريخي للشعب الفلسطيني على حق في معظم الأحيان من دون أن يعني ذلك أن ثمة ما يبرر الغطاء الذي وفره لموسى عرفات وما أقدم عليه من ارتكابات لم تسىء الى "أبو عمار" فحسب بل أساءت إلى القضية ككل أيضاً.
خلف محمود عباس (أبو مازن) ياسر عرفات في رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية. وكان أن أورث تركة لا تشبه الا الشخصية المعقدة للزعيم الراحل وهي شخصية تتناقض كلياً مع صفاته هو. يكفي أن "أبو عمار" كان شخصاً غامضاً يصعب التكهن بما يريده، وهو يعتبر الغموض سلاحاً من أسلحته مكنه من مواجهة العواصف العربية والأقليمية والدولية، فيما يعتقد "أبو مازن" ان ليس لديه ما يواجه به الآخرين سوى الوضوح والصدق والتزام كلمته. هذه هي حال الرجل الذي يواجه حالياً في غزة امتحاناً في غاية الصعوبة لا يهدد مستقبله السياسي فحسب، بل يهدد أيضاً الانجاز الفلسطيني الذي تحقق أخيراً عندما فككت إسرائيل المستعمرات التي أقامتها في القطاع وقررت الانسحاب منه.
يقول الذين يعرفون "أبو مازن" ان الرجل فهم على وجه السرعة أبعاد اغتيال موسى عرفات، ذلك أنه بغض النظر عن الموقف من الضحية ومن ممارساتها في أيام ياسر عرفات، يعطى حادث الاغتيال والطريقة التي نفذ بها صورة واضحة عن حال العجز التي تعاني منها السلطة الوطنية. وليس ما يدل على مدى خطورة هذا العجز أكثر من القدرة على التي يمتلكها ما يزيد على مئة مسلح على التحرك بحرية كاملة في أحد أحياء غزة وعلى بعد نحو مئتي متر من مقر الرئاسة، ثم تطويقهم المنزل الذي يقيم فيه موسى عرفات. وبعد ذلك اشتبك هؤلاء بحراس المنزل قبل اقتحامه وإخراج صاحبه منه وإعدامه في الشارع. لم تحرك الأجهزة الأمنية الفلسطينية ساكناً، وكان لدى المسلحين متسع من الوقت لخطف نجل موسى عرفات (أسمه منهل) وهو ضابط في أحد الأجهزة الأمنية.
فهم "أبو مازن" الرسالة وكان أول قرار اتخذه أن ألغى سفره الى نيويورك للمشاركة في القمة الدولية التي تعقد قبيل افتتاح دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، سيكون اريئيل شارون حاضراً في نيويورك فيما سيغيب الرئيس الفلسطيني. لقد أحسن "أبو مازن" عندما اتخذ قراراً بعدم الذهاب إلى نيويورك. انه رجل يحترم نفسه، رجل وجد أن ليس لديه ما يقوله للعالم عندما تزداد الفوضى في غزة بمجرد انسحاب الإسرائيليين منها تمهيداً لزوال الاحتلال نهائياً. هل اتخذت إسرائيل قراراً نهائياً بالانسحاب من غزة لتأكدها من أن الخيار في القطاع لم يعد بين المشروع الواقعي للسلطة الوطنية من جهة وفوضى السلاح من جهة أخرى؟ ربما انسحبت لأنها صارت متأكدة من أن السلطة الوطنية لن تقوم لها قيامة في عهد "أبو مازن" وان الرجل لن يجد ما يقوله لمواطنيه خلال فترة قصيرة. لقد حاول جهده لتحقيق نقلة نوعية على كل المستويات، لكن عقلية "جمهورية الفاكهاني" في بيروت كانت الأقوى.
هل يستسلم "أبو مازن" لليأس ويقول إن المشروع الفلسطيني الواقعي سقط في غزة؟ ام ان هناك من لا يزال يعتقد بأن في الامكان لملمة الوضع؟ في كل الأحوال، ما حصل في غزة خطير، بل خطير جداً. انه يجعل الوضع في القطاع شبيهاً بذلك الذي يسود في الصومال منذ ما يريد على خمسة عشر عاماً!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.