يصعب فهم منطق العملية الانتحارية الفلسطينية الأخيرة في نتانيا. اللهم، إلا إذا أخذنا في الاعتبار أن هناك جهات اقليمية تحرّك منظمات فلسطينية معينة كلما بدت هناك حاجة إلى فسحة تهدئة تساعد في اتخاذ قرارات فلسطينية وعربية تصب في مصلحة الشعب الفلسطيني وتحرج اسرائيل. حصل ذلك في الماضي ولا يزال يحصل حالياً مع كل ما تتضمنه المرحلة الراهنة من مخاطر على الوضع العربي عموماً والفلسطيني تحديداً.
لعل أسوأ ما في العملية الأخيرة التي تبنتها منظمة "الجهاد الاسلامي"، التي راح أمينها العام يتحدث إلى الفضائيات العربية من بيروت، حصولها في وقت كانت فيه أنظار العالم مركزة على العمل الارهابي التي تعرضت له لندن وذهب ضحيته مدنيون كانوا في وسائط نقل عامة. هل كان مطلوباً بكل بساطة جعل الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الاحتلال مطالباً بأبسط حقوقه، في موقع شبيه بذلك الذي يحتله انتحاريو لندن وقبلهم انتحاريو 11 أيلول 2001؟
إنه أمر مثير للدهشة والاستغراب أن يكون هناك عرب أو غير عرب، يصرون على تقديم كل هذه الخدمات لشخص مثل ارييل شارون وضع في أولوية أولوياته القول للعالم وإقناعه بأنه شريك في الحرب على الارهاب، علماً بأنه يمارس أسوأ أنواع الارهاب المتمثل بإصرار دولة قامت في الأصل على ظلم لحق بشعب آخر، على تكريس الاحتلال وحرمان شعب بكامله من حقوقه المعترف بها دولياً.
ليس كافياً أن تبادر السلطة الفلسطينية إلى التنديد بعملية نتانيا، علماً بأن موقفاً من هذا القبيل أكثر من ضروري. ثمة حاجة في هذه المرحلة بالذات إلى استيعاب خطورة كون العملية التي وقعت في نتانيا تستهدف العرب عموماً وكل دولة عربية بفردها في آن. انها عملية موجهة ضد العرب هدفها الأساسي تسويد صورتهم في العالم وتأكيد أنهم جزء لا يتجزأ من الجانب الآخر في الحرب على الارهاب، أي الجانب المشكو منه في هذه الحرب التي يشارك فيها العالم المتحضر.
من هذا المنطلق، كان مفترضاً اتخاذ موقف عربي موحد لا لبس فيه، موقف يؤكد أن العرب يدينون من دون أدنى تحفظ كل العمليات الانتحارية التي تستهدف مدنيين، إضافة إلى تأكيد أنهم جزء لا يتجزأ من الحرب على الارهاب بدل ترك الأمين العام لـ"الجهاد" يسرح ويمرح في بيروت مطلقاً تصريحات تخدم شارون واسرائيل أولاً وتسيء إلى لبنان ثانياً باعتباره لا يزال "ساحة" لا أكثر للتجاذبات الاقليمية.
في حال كانت هناك حاجة لدى العرب للتأكد من مدى الضرر الذي يمكن أن تلحقه بهم عملية مثل العملية الأخيرة في نتانيا تكفي العودة إلى الأحداث التي رافقت قمة بيروت في آذار من العام 2002 وقتذاك، كان التركيز على الخروج بخطة سلام عربية يتقبلها العالم استناداً إلى مبادة ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبد العزيز. أقرت القمة الخطة التي رفضتها اسرائيل سلفاً، ولكن ما حدث انه في الوقت الذي كانت القمة تنهي أعمالها، نفذت "حماس" عملية انتحارية في نتانيا، نعم في نتانيا. ماذا كانت النتيجة؟ قبل كل شيء، لم تعد حاجة لدى شارون لتبرير عدم رده على خطة السلام أو مبادرة السلام العربية. وانصرف رئيس الوزراء الاسرائيلي في لحظتها إلى تضييق الخناق على ياسر عرفات الذي كان في وضع في الاقامة الجبرية في مقره في رام الله، وذلك على الرغم من إدانة "أبو عمار" والسلطة الوطنية الفلسطينية للعملية الانتحارية.
فوق ذلك كله، انصرف تركيز الاعلام العالمي عن الحدث الذي مثلته قمة بيروت وما صدر عنها، وركز في المقابل على عملية نتانيا والمدنيين الذين قتلوا في أثناء تمضية عطلة الفصح اليهودي فيها. من استفاد من تلك العملية غير اسرائيل ومن غيرها يمكن أن يستفيد من العملية الأخيرة في نتانيا؟ ثمة حاجة إلى موقف عربي واضح يسمي الأشياء بأسمائها في هذه المرحلة بالذات وهي مرحلة لا تتحمل أي نوع من الغموض والتردد والضبابية. ثمة حاجة إلى الذهاب إلى أبعد من إدانة ما حصل في لندن ونتانيا. ثمة حاجة إلى القول ان قتل المدنيين ارهاب وأن لا شيء في العالم يبرر الارهاب، لا الدين ولا اللون ولا الجنسية ولا حتى الرد على الارهاب بالارهاب. وربما كانت حاجة إلى أن يتخذ العرب قراراً شجاعاً يقضي بفضح الجهات العربية وغير العربية التي تشجع عمليات مثل العملية الأخيرة في نتانيا والتي تسمح باستخدام بيروت للاساءة إلى الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. من دون موقف عربي شجاع يضع الأمور في نصابها، يخشى أن تخلق اسرائيل واقعاً جديداً على الأرض يتمثل في الانسحاب من غزة وضم ما تريد ضمه من الضفة الغربية بما في ذلك القدس، كل القدس، فيما العالم يتلهى بإدانة عملية مثل عملية نتانيا بحجة أن الحرب على الارهاب أولوية الأولويات!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.