يستطيع الرئيس بوش الإبن التبجح انه صانع التاريخ. ذلك أن الرجل أعاد رسم خريطة العالم وأسقط حتى الآن نظامين وغيّر موازين القوى في الشرق الأوسط الى حد بات يمكن القول إنه أخرج العرب من المعادلة الإقليمية وجعلهم تحت تأثير الدول غير العربية في الشرق الأوسط في مقدمها إسرائيل وتركيا وإيران.
ان بوش الإبن يصنع التاريخ بالفعل بتهميشه أوروبا التي ذهب الى الحرب مع العراق من دونها، وهو بذلك أوجد للمرة الأولى في التاريخ الحديث هوّة عميقة بين الولايات المتحدة والقارة القديمة. كذلك يمكن القول إن الرئيس الأميركي الساعي الى تجديد ولايته يصنع التاريخ، بل يعيد تركيب العالم، عندما يتبيّن أنه قادر على الذهاب الى الحرب من دون الأمم المتحدة وإن على المنظمة الدولية التي مركزها في نيويورك أن تكون إما مع الولايات المتحدة وإما ضدها وبالطريقة نفسها التي قسم بوش الإبن العالم... وإلا فلا أمم متحدة ولا من يحزنون.
من الناحية العملية، لدى كل رئيس أميركي القدرة على صنع التاريخ، نظراً الى أن رئيس أميركا أقوى رجل في العالم. انه على رأس أكبر قوة عسكرية واقتصادية، قوة لا منافس لها، ويكفي أن يستخدم جزءاً من هذه القوة ليتغيّر شيء ما في العالم. ولكن يبقى أن صناعة التاريخ شيء وكتابة التاريخ شيء آخر، لا لشيء سوى لأن المهزومين يشاركون في صناعة التاريخ في حين أن المنتصرين وحدهم هم الذين يكتبونه.
يكفي تذكر هتلر للتأكد من أن المهزوم يشارك أيضاً في صناعة التاريخ، هل يمكن تجاهل أن الفوهرر أعاد رسم خريطة العالم بعدما افتعل الحرب العالمية الثانية. صحيح أنه خسر هذه الحرب لكن العالم ظل يعيش استناداً الى الأسس التي خلّفتها طوال ما يزيد على خمسة وأربعين عاماً، أي الى أن انتهت الحرب الباردة وانهار الاتحاد السوفياتي بكل ما يمثله من جبروت وعظمة...
لم يكتب هتلر التاريخ لكنه شارك في صنعه وشارك حتى في صنع المأساة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني الذي يدفع ثمن جريمة الرايخ الثالث في حق اليهود من دون أن يكون له علاقة بهذه الجريمة لا من قريب ولا بعيد، كأنه مكتوب عليه أن يتعرض للتعذيب الذي تعرّض له اليهود أيام هتلر على يد أحفاد ضحايا هتلر!
إذا كان بوش الإبن يريد بالفعل أن يكتب عنه التاريخ بطريقة إيجابية، أو أن يشارك في كتابة التاريخ، سيتوجب عليه أولاً الفوز بولاية ثانية. وبعد ذلك تبدأ مهمة الذهاب الى أبعد من صناعة التاريخ على طريقة هتلر أو نابليون أو حتى زعماء الاتحاد السوفياتي الذين قادوا الامبراطورية الى التفكك والانحلال. ان الانتقال الى كتابة التاريخ على طريقة المنتصرين تتطلب أول ما تتطلب وقفة شجاعة حيال ما يدور في الشرق الأوسط. مثل هذه الوقفة تفرض القول صراحة إن الشعب الفلسطيني يتعرّض للظلم وإن هذا الظلم لا يمكن أن يستمر الى ما لا نهاية.
ان الانتصار يكون على النفس أولاً، وذلك يبدأ بكبح الإنسان لغرائزه. ومتى حصل ذلك يمكن التساؤل عما يمكن عمله لخدمة البشرية بدل البقاء في أسر صيغة تقسيم العالم بين من هم معنا ومن هم ضدنا. ومتى استطاع بوش الإبن كبح غرائزه يستطيع بسهولة أن يقول أمام المرآة ما يردده مسؤولون أميركيون كثيرون تعاطوا في قضية الشرق الأوسط. يستطيع أن يقول مثلاً أن هناك حلاً عادلاً ودائماً للنزاع العربي ـ الإسرائيلي. صحيح أنه لا يمكن أن تكون هناك عدالة بالمعنى المطلق للكلمة، لكن هناك عدالة تلبي حاجات كل الأطراف المعنية. ويستطيع أن يقول لنفسه إن الحل في الشرق الأوسط لا يمكن التوصل إليه إلا عبر المفاوضات المستندة الى توازن بين المصالح وليس الى خلل في موازين القوى. وأخيراً يستطيع الرئيس الأميركي العودة الى الخلف قليلاً وترديد ما يؤكده غير مسؤول أميركي عن أنه لن تكون هناك مفاوضات جدية في الشرق الأوسط من دون مشاركة أميركية فعالة، أي من دون أن تعتبر الولايات المتحدة نفسها شريكاً كاملاً في هذه المفاوضات.
لن يختلف إثنان على أن بوش الإبن، بعد كل ما فعله في العراق وبعد تركه آرييل شارون يسرح ويمرح في المنطقة، صار من صنّاع التاريخ. ولكن لا يوجد إثنان يتفقان على أن الرئيس الأميركي قادر على ربط اسمه بإنجاز ما يدخله بالفعل التاريخ من بوابة المنتصرين. ويظل الشرق الأوسط المكان الوحيد الذي يستطيع أن يحقق فيه مثل هذا الإنجاز، لأنه المكان الوحيد الذي فيه قضية لا تحتاج الى لف ودوران. إنها قضية احتلال واغتصاب لحقوق شعب. وكل ما يحتاجه بوش الإبن لإنهاء هذا الاحتلال وتخليص الشعب من الظلم اللاحق به الانتصار على غرائزه أولاً، تلك الغرائز التي جعلته لا يفرّق بين صنع التاريخ على طريقة المهزومين وكتابته على طريقة المنتصرين.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.