ان يعود العقيد محمد دحلان الى الحكومة الفلسطينية أو لا يعود، ليست تلك المسألة. المسألة أن تستمر حال الهدوء السائدة حالياً بعيداً عن المناكفات التي أدت الشهر الماضي الى ما أدت اليه في غزة حيث حصلت عمليات خطف انتهت باستبدال قائد الشرطة وتقديم رئيس السلطة الوطنية ياسر عرفات تنازلات لم تكن في واقع الأمر حقيقية. إضافة الى ذلك، شهد الوضع في الضفة الغربية تدهوراً بلغ ذروته بإطلاق النار على عضو المجلس التشريعي السيد نبيل عمرو الذي كان وزيراً للإعلام في حكومة "أبو مازن". تلك الحكومة التي اضطرت الى الاستقالة لأسباب إسرائيلية وفلسطينية في آن.
وقد أظهر نبيل عمرو على الرغم من انه تعرّض عملياً لمحاولة اغتيال وليس لمجرد إطلاق نار على ساقه، مقداراً كبيراً من الشجاعة والوطنية عندما رفض توجيه اتهامات الى أي طرف بعدما اضطر الأطباء الى بتر احدى قدميه في مستشفى ألماني.
أمكن لملمة الوضع الى حد ما ولا شك ان رئيس الوزراء الفلسطيني السيد أحمد قريع الذي هدد بالاستقالة لعب دوراً في ذلك ونجح في التوصل الى نوع من الهدنة بين الأجنحة المختلفة في "فتح" خصوصاً بين بعض المحسوبين على "أبو عمار" المنتمين الى "الحرس القديم" من جهة والقيادات الشابة من جهة أخرى التي ترى أن بعض رجال "أبو عمار" هم "رموز للفساد" أكثر من أي شيء آخر.
المهم ان الهدنة حصلت. والدرس الأول الذي يمكن الخروج به من التجربة الأخيرة هو ان لا غنى عن شخص ياسر عرفات الذي لا يزال يمثل "الرمز" المقاوم للاحتلال والصامد في وجه كل المحاولات الهادفة الى إذلال الشعب الفلسطيني وإجباره على التخلي عن حقوقه. أما الدرس الثاني فهو ان لا بد من الاصلاحات وان لا مفر من استبعاد رموز الفساد الذين صاروا عبئاً على ياسر عرفات الذي يفترض ألا يربط مصيره بمصيرهم. فالرجل يجب ان يكون فوق مثل هذا النوع من الصراعات كما يجب ان يكون، على الرغم من انه في الإقامة الجبرية، على اطلاع على ممارسات معينة وعلى علم بها وألا يسمح بها.
نعم ان "أبو عمار" يتعرض لضغوط قوية وكل هم الأميركيين والإسرائيليين محصور في التخلص منه وتأكيد ان لا شيء يمكن ان يتحرك ما دام في موقعه وما دام ممسكاً بالقرار الفلسطيني. لكن هذه الضغوط لا يُرد عليها بمزيد من التصلب وانما بمزيد من المرونة ومزيد من الاصلاحات الداخلية التي تحول دون حصول حال انفلات في غزة أو في مدن الضفة الغربية كما هو حاصل في نابلس على سبيل المثال.
يبقى السؤال كيف الاستفادة من الهدنة داخل "فتح"؟ لا شك ان دخول محمد دحلان الحكومة يمكن ان يساعد في تكريس هذه الهدنة. لكن ذلك ليس كافياً، إذ يفترض بدء البحث في الخطوات المقبلة التي لا بد من اتخاذها لمواجهة المشروع الشاروني المتمثل في اقتطاع أجزاء من الضفة الغربية وفرض أمر واقع جديد فحواه ان لا عودة الى حدود 1967. ان الهدنة الداخلية ضرورية ولا بد ان تشمل "حماس" التي وقفت متفرجة ـ حتى لا نقول شامتة ـ إزاء ما يدور بين أهل "فتح". أكثر من ذلك، ان هذه الهدنة لا معنى لها إذا لم تتوصل "فتح" الى تفاهم مع "حماس" في شأن ضبط الأوضاع في الأراضي الفلسطينية ومواجهة مرحلة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة. ان هذا الانسحاب يمكن ان يستفيد منه الجانب الفلسطيني كما يمكن ان يلحق مزيداً من الإضرار به.
يمكن ان يستفيد منه إذا تحولت غزة نموذجاً لدولة فلسطينية مسالمة ونواة لهذه الدولة، وليس غابة سلاح وقاعدة إطلاق صواريخ لا تخدم سوى شارون وسياساته. ويمكن للجانب الفلسطيني ان يستفيد في حال استطاع بناء سلطة مركزية تشرف على الأمن وراحة الناس بدل ان تكون سلطة قمعية أي نظاماً عربياً آخر يجعل الفلسطيني يترحم على الاحتلال!
وما قد يكون أهم من ذلك كله ان تفكر السلطة الوطنية منذ الآن في كيفية الاستفادة من مصر لضبط الأوضاع في غزة وأن تتعاطى مع الأردن بطريقة إيجابية حتى لو صدرت عن عمان انتقادات لممارسات معينة. فالأكيد ان لا أطماع لمصر في غزة وكل همها محصور في ضبط الأوضاع في القطاع لأن أمنها يتأثر بأي فوضى فيه. اما الأردن فإنه معني بالاستقرار في الضفة الغربية ويعتبر ان "الجدار الأمني" تهديد لأمنه. إضافة الى ذلك ان الأردن الذي وضع اللبنة الأولى للدولة الفلسطينية عندما اتخذ قرار فك الارتباط معها صيف عام 1988 يجد مصلحته المباشرة في هذه الدولة، أي ان مصلحته تلتقي بشكل طبيعي مع المصلحة الفلسطينية.
ان يدخل دحلان الحكومة، وان تستمر الهدنة، وان يعمل الفلسطينيون على لملمة أوضاعهم الداخلية، وان يسعوا الى تحسين العلاقات مع مصر والأردن والانفتاح عليهما، خطوات صغيرة يمكن ان تؤدي الى تحسين الأوضاع في انتظار مرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية. بعد تلك المرحلة سيظهر ما إذا كان هناك تغيير في واشنطن، لانه من دون هذا التغيير سيظل شارون يضغط ويضغط من أجل تكريس الاحتلال ومنع قيام دولة فلسطينية "قابلة للحياة". هذه هي أجندة رئيس الوزراء الإسرائيلي. وكل ما عدا ذلك أوهام بأوهام.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.