ساعةَ يزور ميشال بارنييه وزير الخارجية الفرنسي الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مقره المحاصر في رام الله، تعطي فرنسا مرة أخرى دليلاً الى انها قادرة على قول كلمة حق في وجه عالم ظالم رضخ لرغبات ارييل شارون ونزواته. تعود فرنسا أحياناً إلى فرنسا، أي إلى فرنسا الثورة الفرنسية ومبادئها.
تحدّت فرنسا إسرائيل في محاولة واضحة لإبلاغ العالم وعلى رأسه الولايات المتحدة ان الظلم لا يمكن أن يستمر وأنه مثلما ان الولايات المتحدة أخطأت في العراق فإنها تخطئ في فلسطين أيضاً. لم تأت أميركا بالسلام إلى العراق ولم تفعل حتى الآن شيئاً تظهر من خلاله انها على استعداد للإقدام على خطوة تؤكد انها تؤمن حقاً بالسلام وبما نادت به على صعيد دعوتها إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
ليس كافياً أن يكون الرئيس بوش الابن أول رئيس أميركي يدعو إلى قيام دولة فلسطينية، ذلك ان الكلام الجميل يظل مجرد كلام، في حين ان ما يدور على أرض الواقع هو إعطاء الحرية لشارون كي يكرّس الاحتلال. وزيارة الوزير الفرنسي لمقر عرفات المحاصر تذكّر الأميركيين والإسرائيليين أنه لا يزال في العالم من يرفض الظلم على الرغم ان هذا الصوت الرافض ليس قادراً على تحويل الكلام أفعالاً وإحداث تغييرات على الأرض.
إذا استمرت الإدارة الأميركية في دعم شارون المصرّ على وجود ياسر عرفات في الاقامة الجبرية، فإنها تدعم عملياً سياسة ذات طابع شخصي مرتبطة أساساً في الحقد الذي يكنّه رئيس الوزراء الإسرائيلي للرئيس الفلسطيني. وهذا الحقد اعترضت عليه حتى صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية التي اعتبرت كلام شارون عن ان وضع عرفات في الاقامة الجبرية "سيستمر 45 عاماً" علماً بأن الرجل في الـ75 من عمره، من نوع الكلام الذي "لا فائدة منه" والذي "يضرّ بإسرائيل".
مع الوقت لا يمكن ان تبقى فرنسا وحيدة في موقفها الرافض للظلم، وأثبتت التجارب والأحداث التي لم يمر عليها الزمن بعد انها اتخذت بفضل الرئيس جاك شيراك مواقف تبيّن انها صحيحة. ولعل أبرز هذه المواقف ذلك المتعلق بالحرب على العراق، وهو موقف كشف ان شيراك رجل بعيد النظر من جهة وقادر على فهم حقيقة الأوضاع في الشرق الأوسط من جهة أخرى.
يبدو مفهوماً إصرار شارون على موقفه من "أبو عمار"، ولكن ما يبدو مستغرباً هو ذلك الإصرار الأميركي على مجاراة رئيس الوزراء الإسرائيلي في سياسته القصيرة النظر والتي لا يمكن تفسيرها سوى في الرغبة في الانتقام من جهة والحؤول دون قيام دولة فلسطينية "قابلة للحياة"، حسب التعبير الأميركي، من جهة أخرى.
لم يحسن "أبو عمار" التصرف مع الجانب الاميركي وحقق من حيث يدري او لا يدري ما يريده شارون اي قطع الاتصالات بينه وبين واشنطن. لكن ذلك لا يعفي الجانب الاميركي من طرح سؤال بديهي هو: هل يريد السلام والاستقرار في الشرق الأوسط أم لا، وهل في الامكان تحقيق السلام من دون ياسر عرفات الذي اظهر الى اشعار آخر انه الرقم الصعب في المعادلة الشرق اوسطية وان ليس في الامكان تجاوزه وان صموده في المقاطعة كل هذا الوقت علي الرغم من تقدمه في العمر وعلى الرغم من وضعه الصحي انما يرمز الى صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال؟
هذا ما تدركه فرنسا التي تعتبر الان ان الوضع الذي يعانيه عرفات "غير مقبول" وان من العيب استمرار الرئيس الفلسطيني في الاسر الى ما لا نهاية، ولا شك في ان ما اقدم عليه وزير خارجيتها عمل شجاع، والامل الان في ان يكون هناك تحرك عربي للبناء على الموقف الفرنسي كي يصبح له وزن سياسي يفوق ذلك الذي تتمتع به فرنسا. هل هناك قدرة عربية على عمل شيء ما في هذا الاتجاه ام تكتفي دول المنطقة بالثناء على فرنسا رئيساً وحكومة وشعباً وتتفرج مع شارون على عرفات يقضي ايامه الاخيرة في رام الله، وهي ايام قد تستمر سنوات، لكن اخطر ما فيها ان الشيء الوحيد الذي يتقدم هو "الجدار الامني" الذي تبنيه اسرائيل.
هذا ما تدركه فرنسا وما يبدو ان اميركا ليست قادرة على ادراكه. اي ان الوضع في الشرق الأوسط ليس من نوع الاسود او الابيض، بل انه معقد اكثر من ذلك بكثير والدليل ان عرفات الذي يعتقد كثيرون انه خسر معارك كثيرة لا يزال على الرغم من انه في الاسر الوحيد القادر على توقيع وثيقة لها معنى باسم الشعب الفلسطيني!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.