يبدو الموقف الأميركي الجديد من الدكتور أحمد الجلبي العضو في مجلس الحكم الانتقالي في العراق مستغرَباً لان الرجل كان يتمتع منذ مدة قصيرة بدعم واضح من صقور وزارة الدفاع وخصوصاً من نائب الوزير بول ولفويتز الذي تربطه به علاقة قديمة. واستطاع ولفويتز بالتنسيق مع ريتشارد بيرل الذي كان الى ما قبل اشهر شخصية نافذة في واشنطن فرض الجلبي على الادارة. وجعل ذلك على الرغم من ان وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي.آي.إي) ووزارة الخارجية بقيتا تشككان في المعارض العراقي الذي ارتبط اسمه بفضائح مالية أبرزها فضيحة "بنك البترا" في الأردن. وقد دين الجلبي في تلك القضية وصدر في حقه حكم قضائي، لكنه يصر دوماً على اعتبار القضية سياسية وانه "بريء"، علماً بأن اسمه ارتبط أيضاً بقضايا مالية أخرى في لبنان وسويسرا...
يمتلك الجلبي وهو رئيس "المؤتمر الوطني العراقي" (المعارض سابقاً) رصيداً كبيراً لدى صقور الادارة الأميركية حتى في الكونغرس حيث لعب مستشار له يدعى فرنسيس بروك دوراً في اقامة شبكة علاقات له مع اعضاء في مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين ومع صحافيين نافذين في واشنطن. حصل ذلك في وقت كان رد المسؤولين في الخارجية ووكالة الاستخبارات لدى سؤالهم عن الشخص الذي يرشحونه لخلافة صدام حسين: "أي شخص ما عدا الجلبي". واختصروا ذلك بثلاثة أحرف هي CBA )ibalahC tuB enoynA(.
في فترة ما بعد احداث 11 أيلول 2001 ثم في مرحلة الاعداد العملي للحرب على العراق من أجل التخلص من نظام صدام حسين، لعب الجلبي أدواراً مهمة أقله على صعيدين: الأول تأكيد امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل والآخر التنسيق مع ايران. وكان صلة الوصل بين صقور وزارة الدفاع من جهة والأجهزة الايرانية المهتمة بالأوضاع العراقية من جهة أخرى. وهذا الأمر لم يكن سراً وظهر بكل وضوح في أثناء المؤتمر الذي عقدته المعارضة العراقية في لندن في كانون الأول من العام 2002، أي قبل أربعة أشهر من بدء الحرب.
كان الدكتور الجلبي لولب المؤتمر الذي عقد برعاية أميركية بحضور شخصيات مهمة في الادارة بينها زلماي خليلزاد الأفغاني الأصل الذي تولى في مرحلة ما الملف العراقي في مجلس الأمن القومي. وكان الدكتور الجلبي وراء نجاح المؤتمر نظراً الى أنه أمّن بفضل التدخل الايراني حضور ممثل لـ"المجلس الأعلى للثورة الاسلامية" الى لندن. ولم يكن ممثل المجلس سوى السيد عبد العزيز الحكيم الذي اصبح في ما بعد عضواً في مجلس الحكم الانتقالي. وما لا بد من الاعتراف به هنا انه لولا حضور الحكيم لما كان هناك ثقل شيعي في مؤتمر لندن الذي يظل الى اشعار آخر احد أهم المؤتمرات التي عقدتها المعارضة العراقية قبل سقوط النظام. يكفي ان مؤتمر لندن خرج للمرة الأولى بوثيقة تتحدث عن "الأكثرية الشيعية" في العراق كما أقر مبدأ الفيدرالية.
في ضوء هذه المعطيات لا يمكن القول ان الاتصالات التي كان يجريها الجلبي مع الايرانيين كانت تحصل من خلف ظهر الأميركيين، خصوصاً انه كلما كان الأميركيون يحتاجون شيئاً من إيران خلال مؤتمر لندن بما في ذلك "اقناع" المجلس الأعلى بموقف ما، كانوا يطلبون تدخل أحمد الجلبي الذي كان يتصل بدوره بـ"الحرس الثوري" والاستخبارات الايرانية المعروفة باسم "اطلاعات". ومعروف ان جهازي الحرس والاستخبارات لعبا وما زالا يلعبان دوراً أساسياً في العراق، فما الذي فعله الجلبي ولم يدر به الأميركيون حتى يتصرفوا معه بهذه الطريقة الفظة؟
هل اكتشف الأميركيون فجأة ان الرجل لا يمتلك رصيداً في العراق وأن المعلومات التي وفرها للادارة في مرحلة ما قبل الحرب كانت معلومات غير صحيحة؟
بالطبع لا، ان المسألة تبدو أبعد من ذلك بكثير نظراً الى كل الذين يتعاطون الوضع العراقي في واشنطن يدركون ان ثمة حاجة الى تغيير في السياسة الأميركية وان الجلبي ادى الدور الذي كان مطلوباً منه تأديته في ظروف معينة. وكان جزء من الدور "اختراع" علماء عراقيين قرروا فجأة الهرب من بغداد والادلاء بالمعلومات الي يحتاجها الأميركيون عن أسلحة الدمار الشامل بغية تبرير الحرب على العراق. وهناك حالياً أكثر من دليل على أن الرئيس بوش الابن نفسه كان يبحث بعد احداث 11 أيلول 2001 عن أي مبرر للربط بين العراق والعمليتين الارهابيتين اللتين استهدفتا نيويورك وواشنطن، وذلك من أجل الانتهاء من نظام صدام حسين.
توحي الطريقة الأميركية في التعاطي مع الجلبي بأن الرهان على استخدام الأمم المتحدة لتغطية المأزق الذي تعانيه سياسة الولايات المتحدة رهان جادّ. وإلى اشعار آخر لا يمكن ايجاد قاسم مشترك بين رئيس "المؤتمر الوطني العراقي" ومبعوث الأمين العام للأمم المتحدة السيد الأخضر الابراهيمي الساعي الى اقامة توازن معين في العراق يأخذ في الاعتبار اطياف المجتمع العراقي، والطبيعة الحقيقية للبلد وموازين القوى فيه. لذلك توحي هذه الطريقة ان هناك خيبة اميركية من ايران التي عليها الآن ان تفترق عن الأميركيين في العراق ما دام هؤلاء أدوا المطلوب منهم، أي انهاء النظام العراقي والقضاء على الجيش والأجهزة الأمنية في البلد بما يفتح الأبواب على مصراعيها أمام قيام عراق جديد لإيران نفوذ واضح فيه.
وأخيراً توحي التصرفات الأميركية مع المعارضة السابقة بأن هناك تجاذبات داخل الادارة الأميركية بدليل ان ولفويتز لم يعد قادراً على تحمل عبء اسمه أحمد الجلبي. في الماضي كان ولفويتز قادراً على التصدي للخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية في آن. الآن يبدو أن هناك اعادة نظر في التوازنات داخل الادارة نفسها... بحثاً عن مخرج من العراق؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.