ليس كافياً أن تعيد الإدارة الأميركية الحياة إلى اللجنة الرباعية بشكل مفاجئ وأن تتحدث اللجنة بحضور وزير الخارجية كولن باول عن التزام "خارطة الطريق". كذلك ليس كافياً أن تعطي الإدارة ضمانات إلى الملك عبدالله الثاني في شأن التزام الولايات المتحدة مرجعية عملية السلام. هذه المرجعية المتمثلة في قرارات الشرعية الدولية التي نسفها الرئيس بوش الابن عندما دعم خطة ارييل شارون للانسحاب من غزة وإبقاء قسم من المستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية في اطار تسوية نهائية تستبعد كلياً حق عودة اللاجئين.
وبالطبع ليس كافياً أن يتحدث الرئيس الأميركي إلى قناتين فضائيتين هما "العربية" و"الحرة" من أجل تبرير سوء معاملة السجناء في العراق كما ليس كافياً أن يحيد الأميركيون السنّة في الفلوجة ليتفرغوا لمعركة مع "جيش المهدي" بقيادة السيد مقتدى الصدر، ذلك ان المشكلة التي تواجه الاحتلال في العراق أعمق من ذلك بكثير ولا تُغطى بعلم جديد لا يستطيع العراقيون الربط بينه وبين بلدهم. اللهم إلا إذا كان المطلوب ان يكون هذا العلم مظلة لعملية من نوع آخر تستهدف تقسيم العراق تحت شعارات من نوع اللامركزية والفيديرالية وما شابه ذلك. وكانت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه حلّ الجيش العراقي الذي كان لا بد من العودة إليه للخروج من مأزق الفلوجة!..
يشكّل كل ما تقوم به الإدارة الأميركية ابتعاداً عن الموضوع الأساسي أي عن الإقدام على خطوات عملية تستهدف تحريك عملية السلام في الاتجاه الصحيح وإعادة التوازن إلى الوضع العراقي من جهة أخرى. ومن دون ذلك لا يمكن وصف ما يحصل في الشرق الأوسط سوى انه دوران في حلقة مفرغة، لا يؤدي إلا إلى مزيد من سفك للدماء أكان ذلك في فلسطين أو في العراق أو في أماكن أخرى من المنطقة يقوى فيها النشاط الإرهابي الذي تقول الإدارة الأميركية انها تشنّ حرباً عليه.
تبدو تصرفات الإدارة الأميركية مع ما ترتكبه من أخطاء الطريق الأقصر لمساعدة الحركات الإرهابية في كل المنطقة ودعمها. لذلك تبدو الحاجة أكثر من أي وقت إلى إعادة نظر في العمق في تصرفات الإدارة. أما البداية فتكون بالقول لشارون ان كفى تعني كفى، وان حلمه ضم أجزاء من الضفة الغربية بما في ذلك القدس، كل القدس، والقضاء على مشروع إقامة دولة فلسطينية "قابلة للحياة" يعتبر أفضل خدمة تقدم إلى "الإرهاب" الذي تشكو منه الولايات المتحدة. والحقيقة ان قسماً لا بأس به من هذا "الإرهاب" هو مقاومة، في حين ان ما يمارس في حق الشعب الفلسطيني بحجة انه لا يوجد طرف يمكن التفاوض معه هو ذروة الإرهاب نظراً إلى ان هذه الحجة الواهية ليست سوى عذر تستخدمه إسرائيل بدعم أميركي جديد لتكريس الاحتلال. وإذا كانت الإدارة في واشنطن تبحث عن خشبة خلاص من الوضع الذي أوصلت المنطقة إليه ما عليها سوى الاستفادة مما قاله وزير الخارجية الروسي سرغي لافروف في المؤتمر الصحافي الذي عقد بعد اجتماع اللجنة الرباعية في نيويورك قبل أيام. قال لافروف في حضور باول والأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان وممثلي الاتحاد الأوروبي: "من الأهمية بمكان الاعتراف بالقرار 1515 الذي اعتمده مجلس الأمن بطلب من روسيا كجزء لا يتجزأ من الأساس الذي تقوم عليه عملية السلام. بموجب هذا القرار اعترفت الاسرة الدولية بخريطة الطريق كآلية ملزمة للتوصل إلى تسوية نهائية".
البداية تكون في اعتماد سياسة معقولة في فلسطين، استناداً إلى قرار لمجلس الأمن يحمل الرقم 1515، سياسة تسعى إلى إعادة الحق إلى أصحابه وتأخذ في الاعتبار ان لا سلام شاملاً في المنطقة من دون إعادة الجولان إلى سوريا. أما الخطوة التالية فإنها في العراق حيث لا يجوز في أي شكل تفادي البحث في الموضوع الأساسي، هذا الموضوع هو غياب التوازن في البلد. ومن دون العودة إلى توازن يأخذ في الاعتبار كل مقومات المجتمع العراقي: ستظهر كل يوم فضائح جديدة بعضها متعلق بالفساد والرشاوى وبعضها الآخر بطريقة معاملة السجناء. ولعل ما هو أهم من فضيحة معاملة السجناء التي يمكن أن يدفع ثمنها وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، السؤال المتعلق بهذا العدد الكبير من الأسرى الذين رماهم الاحتلال في أبو غريب وغير أبو غريب من دون مبرر، أليس ذلك الظلم بعينه؟
من دون خطوات ذات طابع عملي في فلسطين، ومن دون سعي جدّي إلى إعادة التوازن للوضع العراقي، فلا يكون طغيان لمذهب على مذهب ولا لعرق على آخر ولا لقومية على أخرى، ستظل السياسة الأميركية تتخبط بطريقة لا تخدم سوى الإرهاب والإرهابيين.. بدءاً بارييل شارون ومن لف لفه وانتهاء بآخر تنظيم ديني متطرف في العراق أو في الجزيرة العربية.
ثمة من سيقول ان مثل هذه الهموم لا علاقة لها بأجندة الرئيس بوش الابن الذي لا تعنيه سوى قضية تجديد ولايته، لكن الرد على ذلك ان سياساته الحالية خلقت اضطراباً في الشرق الأوسط أدت إلى زيادة لا سابق لها منذ أربعة عشر عاماً لأسعار النفط، وهي زيادة بدأت تؤثر على عملية انتعاش الاقتصاد الأميركي التي يتكل عليها في المواجهة مع جون كيري.. ومعنى ذلك بكل وضوح ان الاقتصاد لا يمكن عزله عن فلسطين والعراق مهما حاولت إدارة بوش الابن ومهما استخدمت من وسائل للتغطية على أخطائها وفظائعها.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.