هذه المرة لم تأت النصيحة الموجهة إلى توني بلير رئيس الوزراء البريطاني من طرف عربي ولا حتى من طرف أوروبي يمكن القول انه يريد منافسة لندن على موقعها المتميز في حضن الادارة الأميركية. صدرت النصيحة عن مجموعة من السفراء والديبلوماسيين البريطانيين خدموا في الشرق الأوسط، إضافة إلى عدد من الموظفين السابقين الكبار في الادارة البريطاانية أو لدى الأمم المتحدة. فحوى النصيحة انه يفترض في بريطانيا إعادة النظر في تأييدها لسياسات "محكوم عليها بالخيبة". وفي رأي موقّعي الرسالة التي تعتبر كتاباً مفتوحاً موجهاً إلى بلير، ان السياسات المحكوم عليها بالخيبة هي تلك التي تتبعها الولايات المتحدة في العراق وفي ما يخص النزاع العربي ـ الإسرائيلي. وكان لافتاً ان موقعي الرسالة وعددهم 52 ذهبوا بعيداً في انتقاد السياسة الأميركية في العراق والتي تلقى دعماً بريطانياً كاملاً حتى القول ان العمليات العسكرية الأميركية في النجف والفلوجة "عززت المعارضة ولم تعزلها"، كذلك ذهبوا إلى حد الحديث عن "مقاومة عراقية" وعن ان "وصف المقاومة بأنها نواة من إرهابيين ومتطرفين وأجانب أمر غير مقنع وغير مفيد".
في المدى الطويل، لا يمكن للرسالة سوى أن تترك أثرها داخل بريطانيا حيث يسعى بلير إلى ولاية ثالثة في رئاسة الوزارة وإلى تحطيم الرقم القياسي في البقاء في هذا المنصب والذي تحتفظ به "السيدة الحديد" التي اسمها مارغريت تاتشر. والواضح من مجريات الأحداث ان موقعّي الرسالة محقون، إن في العراق وإن في فلسطين، حيث يعتبرون ان بلير اتخذ موقفاً مؤيداً للرئيس بوش الابن وارييل شارون، ويصفون هذا الموقف بأنه "منحاز وأحادي الجانب ومخالف للقانون الدولي".
ربط بلير مستقبله السياسي بالسياسة الأميركية، ولكن ماذا اذا تغيرت هذه السياسة في الاتجاه الذي يدعو إليه موقّعو الرسالة، فيتبين ان لهؤلاء تأثيراً في واشنطن أكثر بكثير من لندن؟
كان لافتا في الأيام الأخيرة ان الإدارة الأميركية باشرت عبر ممثليها في العراق على رأسهم الحاكم المدني بول بريمر بإعادة النظر في مواقف ثابتة كان يصعب القول انها يمكن ان تتراجع عنها. من هذه المواقف الدعم الذي تقدمه للسيد أحمد الجلبي رئيس "المؤتمر الوطني العراقي" الذي مارس دوراً أساسياً في جرها إلى حرب العراق كما أدى دوراً على صعيد اعتماد سياسة اجتثاث حزب البعث وحل الجيش العراقي والمعلومات المتوافرة أخيراً تؤكد ان الجلبي فقد كل دعم في واشنطن بما في ذلك دعم وزارة الدفاع التي أوقفت مساعدة شهرية كانت تقدمها له لقاء جمع معلومات عن الوضع. وتقدر هذه المساعدة الشهرية بنحو 340 ألف دولار، وفي الوقت نفسه التقى بريمر ضباطاً في الجيش العراقي السابق كما أُعيد الاعتبار إلى بعثيين كانوا يعملون في قطاعات مختلفة بينها القطاع التربوي.
تدعو رسالة الشخصيات البريطانية باختصار شديد إلى ان تكون هناك سياسة أميركية ـ بريطانية لمرحلة ما بعد صدام، بدل ترك الوضع تحت رحمة قرارات عشوائية وراءها أشخاص مثل أحمد الجلبي لديهم أجندة خاصة بهم لا علاقة لها بمستقبل أفضل للعراق. ولعل أفضل ما تقترحه الشخصيات الـ52 التعاون مع الأخضر الابراهيمي مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لايجاد مخرج من الوضع السائد في العراق. والأكيد ان الابراهيمي يمكن أن يعتبر حالياً افضل الديبلوماسيين القادرين على التعاطي مع الوضع العراقي نظراً الى انه يدرك الحساسيات العراقية والاقليمية من جهة وانه لا يمتلك اجندة خاصة به على غرار الجلبي وغير الجلبي من جهة أخرى.
على الرغم من الذي يحصل في الفلوجة والمشكلة التي اسمها السيد مقتدى الصدر، بدأت تلوح معالم حل في العراق يمكن ان يمكِّن الأمم المتحدة من اعادة لملمة الأوضاع في هذا البلد المهدد بالتقسيم والذي تصفه الرسالة بأنه أكثر دول المنطقة "تعقيداً". ولكن ماذا عن فلسطين التي تقول الرسالة ان الحل ممكن فيها وان بريطانيا ادارت ظهرها لـ"خريطة الطريق" متجاهلة كل التقدم الذي تحقق خصوصاً في عهد الرئيس كلينتون؟
تبدو بريطانيا مدعوة أكثر من أي وقت الى تصحيح الخطأ الجسيم الذي ارتكبه الرئيس الأميركي عندما اتبع سياسة متطابقة مع سياسة شارون، ذلك ان الذي على المحك ليس قرارات الشرعية الدولية التي تشكل مرجعية السلام في المنطقة فحسب، بل مستقبل الشرق الأوسط برمته ايضاً. فمثلما ان اميركا وجدت ان لا مخرج لها من العراق سوى بالعودة الى الأمم المتحدة، لن يكون صعباً أن تسلك الطريق ذاته في ما يتعلق بفلسطين حيث لا حل سوى بدولتين تقومان استناداً الى القرارات الدولية احداهما الدولة الفلسطينية "القابلة للحياة" على حد تعبير الرئيس بوش الابن نفسه. والقراءة المتأنية لنص الرسالة الموجهة الى بلير تظهر ان الديبلوماسيين وكبار الموظفين السابقين الذين لديهم خبرة طويلة في شؤون المنطقة لم يقولوا شيئاً آخر. كل ما ارادوا عمله هو التعبير عن قلقهم من ان السياسات الأميركية والبريطانية ذاهبة بالشرق الأوسط الى كارثة في حال لم تتغير! وانه لا بد من الأمم المتحدة مهما طال السفر!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.