ما يدور في إيران حالياً يعطي فكرة على مدى حيوية المجتمع في هذا البلد ورغبته في الخروج من القوالب الجامدة التي يسعى الجناح المحافظ إلى فرضها عليه. انه صراع بين مجتمع يتوق إلى الانعتاق من القيود والإنتماء إلى العالم الحضاري من جهة، وجناح يسيطر على السلطة عبر المؤسسات الأمنية يسعى إلى الاحتفاظ بمواقعه من جهة أخرى.
قبل الحرب الأميركية على العراق، سُئل عدد من الخبراء الأميركيين عن أسباب الإصرار على التخلّص من النظام العراقي بالقوة في حين ان هناك في واشنطن من يعتبر ان النظام الإيراني أكثر خطورة وأنه يُفترض ان تكون له الأولوية على النظام العراقي؟ وكان جواب هؤلاء ان هذا الأمر قد يكون صحيحاً، لكن الفارق ليس بين النظامين بل يكمن في ان المجتمع الإيراني يمتلك القدرة الداخلية على إحداث التغييرات المطلوبة في حين ان النظام العراقي حرم المجتمع العراقي من هذه القدرة.. ولذلك لا بد من التدخّل الأميركي!
يبدو أن هؤلاء الخبراء على حق، ذلك أن إيران تسير في الاتجاه المطلوب أن تسير فيه، والفارق بين الجناحين، المحافظ والإصلاحي، لا يعود إلى أن أياً منهما يرفض الحوار مع واشنطن أو الدخول في مفاوضات معها، بل ان هناك في الواقع تسابقاً بينهما على ذلك، كل ما في الأمر ان الجناح المحافظ يريد أن يباشر الحوار والمفاوضات من تحت الطاولة، في حين لا يعترض الجناح الإصلاحي على أن تكون العلاقة مع واشنطن علنية!
يدرك الجناح الإصلاحي ان الأكثرية التي يمتلكها في البرلمان ليست كافية لتمكينه من السيطرة على المواقع التي تمارس منها السلطة الفعلية في إيران. ويدرك ان رئيس الجمهورية السيد محمد خاتمي مقيّد وأنه ليس سوى رئيس بالاسم على الرغم من انه انتخب مرتين لهذا المنصب. وفي المرتين حصل على أكثرية شعبية ساحقة. ويدرك هذا الجناح ان ثمة حاجة إلى تغيير جذري يؤدي في ختام المطاف إلى وضع الأمور في نصابها، أي إلى أن تكون السلطة في يد الذين ينتخبهم الشعب وليس في يد الذين يستمدّون شرعيتهم من الثورة التي أطاحت الشاه ونظامه.
بعد ربع قرن على عودة آية الله الخميني إلى طهران منتصراً من نوفل ـ لو ـ شاتو (في أحدى ضواحي باريس)، وجد النواب الإصلاحيون مناسباً أن يقدموا استقالتهم إلى رئيس البرلمان احتجاجاً على منعهم من خوض الانتخابات والسيطرة على مجلس النواب الجديد. ووجد المحافظون، في المقابل، انه لم يعد أمامهم سوى الاستمرار في اعتماد الوسائل الاستثنائية للمحافظة على شرعيتهم الثورية عبر إسقاط الإصلاحيين في الانتخابات عن طريق منعهم من ترشيح أنفسهم.
تبدو هذه المواجهة أكثر كلاسيكية خصوصاً ان انتصاراً كاسحاً جديداً للإصلاحيين في الانتخابات المقبلة سيعني انه على هؤلاء الذهاب إلى أبعد من تنفيذ الإجراءات التي يطلب منهم المواطنون الإقدام عليها بدل الاكتفاء بإصلاحات شكلية لا تمسّ في أي شكل السلطات القوية التي يتمتع بها المحافظون الذين يسيطرون على مفاصل الاقتصاد والأمن في الداخل وعلى السياسة الخارجية للبلد، أي على القرار السياسي.
في الواقع، ان الضغط الذي يتعرض له الإصلاحيون أكبر بكثير من ذلك الذي يتعرض له المحافظون. وهؤلاء لم يتحركوا لمنع الإصلاحيين من الترشح، إلا لأنهم يدركون ان الإصلاحيين لم يعودوا قادرين على مهادنتهم وأن المجلس المقبل، وتحت الضغط الشعبي، لن يكون قادراً على الاكتفاء بإصلاحات شكلية إن على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي.
إلى الآن، لعب المحافظون أوراقهم بذكاء لتحييد أميركا، بدليل انهم ساعدوا الولايات المتحدة في الحرب التي خاضتها في أفغانستان وقدموا لها هناك دعماً لوجستياً، وساعدوها في حرب العراق حيث التقوا على إسقاط نظام صدام حسين، ورضخوا لشروط وكالة الطاقة الذرية، بما في ذلك الزيارات المفاجئة للمفتشين الدوليين وذلك قبل أن تعلن ليبيا قبولها التخلص من برامج أسلحة الدمار الشامل، وفتحوا في الوقت ذاته خطوطاً سرية مع واشنطن. لكن ذلك ليس كافياً للتخلص من الضغط الداخلي الذي يمارسه الشباب الإيراني من أجل تحقيق طموحاته المتمثلة في الانتماء إلى العالم. هذا الشباب يرفض القيم والشعارات التي يسعى المحافظون إلى فرضها باسم الثورة، وهو يدرك ان الحاجة هي إلى ثورة على الثورة. وهذا ما يفسّر إلى حد كبير الطريقة التي تصرّف بها النواب الإصلاحيون وذهابهم إلى حد اتهام المحافظين بالسعي إلى فرض ديكتاتورية دينية على غرار ما فعلت حركة "طالبان" في أفغانستان قبل أن يتدخّل الأميركيون لإسقاط النظام الذي فرضته.
إيران إلى أين؟ إلى مواجهة جديدة بين الإصلاحيين والمحافظين، مواجهة يشارك فيها الطلاب والمرأة من أجل التخلص من عقدة ان المواطن الإيراني يكره أميركا، في حين انه معجب بها وطموحه استهلاك منتجاتها والاستفادة من ثقافتها. قد لا تكون المواجهة الدائرة حالياً حاسمة، إلا انها تظل منعطفاً في معركة طويلة لا يمكن أن تنتهي إلا بحصول تغيير جذري في بلد مهم وأساسي في المنطقة سيكون أكبر المستفيدين اقليمياً من القرار الأميركي بإعادة تشكيلها. هذا القرار الذي وُضع موضع التنفيذ في اليوم الأول لدخول القوات الأميركية العراق من أجل تغيير طبيعة البلد وإعادة النظر في موازين القوى التقليدية في الشرق الأوسط كله.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.