لم يعد هناك شيء اسمه انتصارات عربية. ولّى زمن الانتصارات منذ فترة طويلة، والحديث عن انتصارات في أيامنا أقرب إلى الأوهام من أي شيء آخر. كل ما في الأمر ان هناك ذراً للرماد في العيون العربية كي لا ترى حقيقة ما ينفذ على الأرض من مشاريع لا هدف لها سوى تكريس الاحتلال.
أخطر هذه المشاريع على الاطلاق يتمثل في "الجدار الأمني" الذي يظل على رغم كل التسميات الأخرى التي تطلقها عليه إسرائيل غطاء لقضم الأراضي الفلسطينية وضمها إلى الأرض التي سلبت عام 1948 في ظل عجز عربي يعتبر أكبر دليل عليه وجود ياسر عرفات في الاقامة الجبرية منذ ما يزيد على ثلاث سنوات.
استطاع ارييل شارون سجن "أبو عمار" الذي شاهد في احدى المرات جرافة إسرائيلية تدخل غرفة الجلوس في مقره وتسحب منها آلة تكييف الهواء، وبقي عرفات على الرغم من ذلك في مكانه متأبطاً رشاشاً هو نفسه الذي خرج به من بيروت في آب من العام 1982. لم يستطع العرب ان يفعلوا شيئاً لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية الذي هو في واقع الأمر زعيم الشعب الفلسطيني.. ولأن عجزهم بدا واضحاً، خصوصاً عندما لم تصدر عنهم أي ادانة واضحة للعمليات الانتحارية التي استهدفت مدنيين داخل "الخط الأخضر"، وجد ارييل شارون انه بات قادراً بفضل الغطاء الذي توفره له الإدارة الأميركية على تنفيذ نصف حلمه.
كانت "إسرائيل الكبرى" الحلم الأكبر لشارون، لكن التطورات التي حصلت على الأرض، خصوصاً بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية اثر توقيع اتفاق اوسلو، حالت دون هذا الحلم، والذي فعله الرجل منذ اليوم الأول لوصوله إلى السلطة مجدداً في شباط من العام 2001 كان استعادة الأرض التي انسحبت منها إسرائيل تنفيذاً للاتفاقات الموقعة مع الجانب الفلسطيني. ومع مرور الوقت استفاد شارون من كل ما حصل في الشرق الأوسط والعالم خصوصاً من أحداث 11 أيلول 2001 وبدء الحرب الأميركية على الإرهاب ثم الحرب على العراق التي أدت إلى احتلاله من أجل تنفيذ النصف الباقي من حلمه أي "الجدار الأمني".
تحاول إسرائيل حالياً تسويق هذا الجدار عالمياً، غيرت اسمه إلى "الجدار الواقي من الإرهاب"، علماً بأن هذا الجدار هو في المدى الطويل بمثابة استثمار في الإرهاب، وهي تصر في حملتها الدعائية على انه جدار "موقت" وانه يمكن ازالته لدى التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، ولكن هل هناك شيء مؤقت عندما يتعلق الأمر بالسيطرة الإسرائيلية على أرض فلسطينية؟
هذه هي السياسة الإسرائيلية التي لا ينقصها أي وضوح، انها محاولة لجعل المؤقت دائماً. وفي غضون أشهر، وفي ظل اللامبالاة الأميركية، ستنتهي إسرائيل من بناء الجدار فيما أميركا منشغلة بانتخابات الرئاسة وبعض العرب منشغل بالانتصارات الوهمية وبعضهم الآخر غير مبال أو منكب على معالجة أوضاع داخلية ناجمة عن سنوات من التهاون مع الحركات الأصولية والاستهانة بها.
لا شك ان الجانب الفلسطيني يتحمل مسؤولية في وصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه، وذلك على الرغم من ان شارون لم يتردد في كل لحظة في بذل كل ما يستطيع من أجل القضاء على السلطة الوطنية الفلسطينية عبر تفكيكها. لكن هذه السلطة ساعدت رئيس الوزراء الإسرائيلي من حيث تدري أو لا تدري وذلك عندما عملت كل ما تستطيع من أجل تمكينه من أن يكون المحاور الوحيد لواشنطن. وزادت عزلة السلطة الوطنية الفلسطينية، عندما استطاعت "حماس" والجهاد الإسلامي" من إظهار سيطرتهما على الشارع الفلسطيني خصوصاً في غزة وانتزاع المبادرة منها سياسياً وعسكرياً.
لا حاجة الآن إلى فتح دفاتر الماضي بمقدار ما ان ذلك ضروري لتفادي الوقوع في أخطاء جديدة، لكن كل ما يمكن قوله هذه الأيام ان من المفيد عدم التلهي بالقضايا الثانوية والانصراف إلى البحث في ما يمكن عمله جدياً للتخلص من الاحتلال الذي يسعى شارون إلى تكريسه ان في الضفة الغربية وان في هضبة الجولان السورية حيث يعرف جيداً باعترافه الشخصي ما الذي يجب عمله اذا كان يريد بالفعل التوصل إلى سلام مع سوريا.
المحزن ان اللعبة التي تمارسها إسرائيل مكشوفة الا من قبل بعض العرب الذين لا يريدون التصدي لشارون بطريقة مجدية أي عبر شن حملة واسعة في أوروبا والولايات المتحدة نفسها لفضح المهمة الحقيقية لـ"الجدار الأمني" وإظهار انه جدار عنصري لا هدف له سوى تكريس الاحتلال. ان ذلك ممكن على الرغم من انشغال الإدارة الأميركية بالانتخابات الرئاسية وعلى الرغم من ان واشنطن لا تنظر إلى مشاكل المنطقة الا من خلال العراق.
ولكن من أجل ان يكون ذلك ممكناً ثمة حاجة إلى بحث جدي على الصعيد العربي في ما يمكن عمله وما يجب تفاديه وفي كيفية صياغة خطاب سياسي مقبول أميركياً لا يترك واشنطن ساحة لشارون يسرح فيها ويمرح وحده. هل كثير أن يطلب من العرب صياغة مثل هذا الخطاب؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.