8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

أميركا كما ظهرت على حقيقتها العارية

ما يمكن استنتاجه من خطاب الرئيس بوش الابن عن "حال الاتحاد" ان أزمة الشرق الأوسط بالنسبة إليه في إجازة، والإجازة مستمرة الى ما بعد الانتخابات الرئاسية في 2 تشرين الثاني المقبل في أقل تقدير.
صدق من قال ان الأولوية بالنسبة الى إدارة الرئيس الأميركي الحالي هي "العراق ثم العراق ثم العراق" وان لا اهتمامات شرق أوسطية أخرى لدى الإدارة في المدى القصير، اللهم إلا إذا كان الأمر متعلقاً بـ"الحرب على الارهاب". واستخدم بوش الابن كلمة "الحرب" عشر مرات في خطابه لتأكيد أنه "بفضل الدور القيادي لأميركا وتصميمها، يتغير العالم في اتجاه الأفضل".
يُعتبر الرئيس الأميركي الحالي رجلاً عملياً، ولذلك ردّ على منتقديه في خطابه أمام مجلس الكونغرس معدداً "الإنجازات" التي تحققت في العراق وأفغانستان ومجال الأمن. واعتمد على أن صدام حسين صار أسيراً وان الأفغان اتفقوا على دستور جديد وحكومة جديدة وأن "الحرب على الإرهاب" مستمرة ولم يحصل شيء داخل الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد 11 أيلول 2001 بفضل الإجراءات التي اتخذتها إدارته.
بالطبع لم ينسَ بوش الإبن أن مشكلته الرئيسية التي قد تحول دون إعادة انتخابه لا تزال داخلية، ولذلك خصص ما يزيد على نصف خطابه للاقتصاد والضمان الصحي والتربية والتعليم معطياً إشارات واضحة الى الناخبين المحافظين فحواها أنه لا يزال ينتمي الى هذه الفئة والى المحافظين الجدد تحديداً. ولم يتردد في تأكيد تمسكه بمؤسسة الزواج وبأنه لا يمكن أن يكون إلا بين رجل وامرأة وبالتقاليد العائلية والدينية مشدداً على أنه رجل تقليدي محافظ لا يحيد عن هذه التقاليد.
كان الهم الأول لبوش الإبن المحافظة على قاعدته المحافظة، لذلك تقول "نيويورك تايمز" أن كارل روف كبير المستشارين السياسيين للرئيس حرص عشية الخطاب على الاتصال بالجمعيات المحافظة للتأكد من أن زعماءها سيستمعون الى ما سيقوله بوش الإبن عن القيم العائلية ومؤسسة الزواج وغير ذلك. وما لبث هؤلاء أن امتدحوا الخطاب صراحة وعلناً آخذين على المرشحين الديموقراطيين سعيهم الى المس بالقيم التي يؤمن بها بوش الإبن على رأسها مؤسسة الزواج في شكلها الحالي التي لا يمكن أن تسمح بأي ارتباط بين الشاذين جنسياً.
هذه هي أميركا العام 2004 كما ظهرت من خلال خطاب الرئيس الأميركي عن "حال الاتحاد". أميركا المهتمة بالعراق الى حد ما وبـ"الحرب على الإرهاب" وبأمنها الخاص، لكنها قبل كل شيء أميركا المأخوذة بمشاكلها الداخلية. انها أميركا المحافظة التي لا تريد أن ترى ما إذا كانت حرب بوش الإبن على العراق محقة وما إذا كان هناك ما يبررها حقاً، أميركا التي لا تسأل هل كذب عليها رئيسها قبل أن يرسل مئات آلاف الجنود لاحتلال بلد آخر، وهل هي فعلاً أكثر أمناً الآن وذلك بغض النظر عن مساوئ النظام العراقي المخلوع والجرائم التي ارتكبها في حق مواطنيه أولاً ومحيطه ثانياً.
في ضوء هذه المعطيات، كان طبيعياً أن يتجاهل بوش الإبن النزاع العربي ـ الإسرائيلي والقضية الفلسطينية تحديداً. في استطاعته أن ينسى أن هناك احتلالاً لأرض عربية وان هناك شعباً بكامله مصادر الحقوق ويتعرض للأرهاب يومياً، ما دامت هذه القضية لا تؤثر على الانتخابات الأميركية وعلى تجديد ولايته. وإذا كان هناك من يريد التأكد من ذلك، ما عليه سوى إلقاء نظرة على ما جرى في ولاية أيوا التي شهدت قبل أيام المرحلة الأولى من الانتخابات الداخلية لدى الحزب الديموقراطي. تستهدف هذه الانتخابات اختيار مرشح الحزب الذي سينافس بوش الإبن وقد فاز فيها السناتور جون كيري الذي لم يعارض الحرب على العراق لكنه اعترض على سير العمليات في مرحلة ما بعد الحرب. تقدم كيري بوضوح على منافسيه كونه ركّز على الأوضاع الداخلية منتقداً الإدارة بقوله "اني أقاتل من أجل تخليص حكومتنا من سيطرة ذوي المصالح الخاصة أكان ذلك لوبي شركات الأدوية أو اللوبي النفطي". لم يتجاهل كيري السياسة الخارجية إذ قال إن جورج بوش الإبن "نفّذ السياسة الخارجية الأقل وعياً والأكثر تمسكاً بالإيديولوجيا في عصرنا الحديث". في المقابل، حلّ
هوارد دين الذي ركز على العراق والاعتراض على الحرب بطريقة حماسية في المرتبة الثالثة ولم يحصل سوى على نصف الأصوات التي حصل عليها كيري.
اننا أمام أميركا أقل إنسانية من أي وقت وأكثر اهتماماً بأوضاعها الداخلية وانشغالاً بها على الرغم من أن لديها ما يزيد على مئة وثلاثين ألف جندي في العراق يقتل منهم ثلاثة أو أربعة يومياً، أحياناً أقل وأحياناً أكثر... والخوف كل الخوف أن يؤدي التخلي الأميركي عن الشرق الأوسط باستثناء فكرة نشر الديموقراطية فيه الى إطلاق يد إسرائيل آرييل شارون، الذي يواجه بدوره مشاكل داخلية يمكن أن تدفعه الى مغامرات لا تحمد عقباها. آخر هذه المشاكل قضية الرُشى المتورط فيها مع ولديه عندما كان وزيراً للخارجية منتصف التسعينيات. هذه القضية تبدو جدية ويمكن أن تدفع رئيس الوزراء الإسرائيلي الى ممارسة عملية هروب الى الأمام في وقت يبحث بوش الإبن عن كل الوسائل التي تجعله في منأى عن أي احتكاك بإسرائيل. أوَليس ذلك ذروة الفراغ في منطقة تحتاج أكثر من أي وقت الى حد أدنى من الاستقرار؟ ولكن ما العمل إذا كانت هذه أميركا التي علينا التعاطي معها، أميركا التي ظهرت على حقيقتها العارية من خلال خطاب بوش الإبن ومن خلال الانتخابات الداخلية للحزب الديموقراطي في أيوا؟

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00