ما عمله السودان هو مصالحة مع النفس أولاً. سودانيون يتصالحون مع سودانيين بعد حروب طويلة استنزفت البلد وحولته صحراء قاحلة على الرغم من كل ما فيه من ثروات. اخيراً قرر السودانيون اقتسام الثروة في ما بينهم بدل ان يستمروا في اقتسام الفقر. وأطرف ما في الأمر أنّ اصواتاً علت من هنا وهناك وهنالك تتحدث عن خسارة السودان عروبته وانتماءه الإسلامي بسبب التوصل إلى إتفاق بين الحكومة وثوار الجنوب على اقتسام الثروة خصوصاً الثروة النفطية.
قبل كل شيء، سيتبيّن مع مرور الوقت وفي حال ساد السلم الاجتماعي السودان انّ الاتفاق في شأن اقتسام الثروة سيعود بالخير على الجميع. وسيتبيّن خصوصاً انّ خيرات النفط الموجود حالياً في الجنوب بكميات كبيرة ستوزع على الشمال ايضاً. وهذا سيؤدي إلى تمكّنه في مرحلة لاحقة من استغلال ثروته النفطية التي يعتقد الخبراء انها أكبر بكثير من تلك التي اكتشفت في الجنوب.
انّ البحث عن النفط في السودان بدأ منذ منتصف السبعينات، واستطاعت أربع شركات أميركية العثور على كميات كبيرة في مناطق جنوبية، لكن الوضع السوداني لم يسمح بأي استغلال للثروة. ومنذ ذلك التاريخ دخل الشمال والجنوب في حرب استنزاف لا يتمنى استمرارها الا الذين حصروا مهمتهم هذه الأيام في المتاجرة بالعروبة والإسلام. والواقع انّ العروبة والاسلام بريئان من هؤلاء، لا لشيء سوى لأن استمرار الحرب كان سيعني استمرار استنزاف السودان بغضّ النظر عن هوية البلد، كما انّ استمرار هذه الحرب كان سيعني انتشار المجاعة والأمراض اكثر مما هي منتشرة الآن.
بمجرد أن باشرت الحكومة السودانية محادثات مع المعارضة الجنوبية، بدأ السودان يأخذ موقعه في المنطقة والعالم. صار هناك تنسيقٌ جديٌ بين دول تجمّع صنعاء (اليمن واثيوبيا والسودان) من أجل البحث في التنمية الاقتصادية والمحافظة على الأمن في منطقة جنوب البحر الأحمر والقرن الافريقي. اكثر من ذلك، صار هناك تنسيقٌ سياسيٌ بين الدول الثلاث من اجل التوصل الى انفتاح أكبر على المحيط، بما في ذلك ارتيريا التي يشكو الجميع من تدخلها في شؤون الآخرين. وباتت هناك قناعة راسخة إن في الخرطوم أو في اديس أبابا أو في صنعاء بأنّ المشاكل داخل الدول وبين الدول انما تحلّ بالطرق السلمية. أوليس ذلك انجازاً عظيماً في منطقة لم تعرف سوى منطق القوة؟
ما العيب في أن يستمع الرئيس عمر حسن البشير ورفاقه الى النصائح الصادرة عن واشنطن ويدخلوا في حوار جدّي مع جون قرنق اذا كان ذلك سيؤدي الى تحسّن الوضع في البلد والى خروجه من عزلته بما في ذلك عودة المياه إلى مجاريها بين الخرطوم والقاهرة وحتى بين الخرطوم وواشنطن في مرحلة لاحقة.
لو كانت سياسات الماضي من نوع تلك التي فرضها الدكتور حسن الترابي بعد "ثورة الانقاذ" في حزيران 1989 تنفع، لما كان السودان، طوال ما يزيد على عشر سنوات في عزلة خانقة. ولو كانت الشعارات البراقة تصنع بلداً نموذجياً، لما تحوّل الطفل السوداني نموذجاً للطفل الذي لا مستقبل له، هذا اذا كان بقي على قيد الحياة.
في حال نجح السودان في تحقيق مصالحة وطنية حقيقية، سيسهل على الخرطوم تفادي انفصال الجنوب بعد الفترة الانتقالية التي مدتها ست سنوات، ذلك انّ ممارسة حق تقرير المصير ستعني بالنسبة الى الجنوبيين انهم قادرون على ممارسة وطنيتهم بكل أبعادها وعلى المشاركة الحقيقية في اقتسام ثروات البلد، بغضّ النظر عن المكان الذي توجد فيه هذه الثروات بما في ذلك الخرطوم التي يمكن أن تتحول مدينةً للعيش المشترك بين السودانيين بغضّ النظر عن عرقهم او مذهبهم أو دينهم.
هل هذا الكلام مبالغ في التفاؤل؟ ربما كان كذلك، لكن الملفت انّ ما يجري في السودان ليس معزولاً عن وجود إرادة دولية، اميركية أولاً، تدعو إلى إنهاء الحرب وتحوّل البلد عنصر استقرار في منطقة البحر الأحمر والقرن الافريقي. بالطبع انّ الإدارة الدولية حتى لو كانت أميركية ليست كافية، ذلك انّ الدولة العظمى الوحيدة في العالم اثبتت انّها قادرة على قلب أنظمة وإحتلال دول، لكن ذلك شيءٌ، وبناءُ الدول وتحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية شيءٌ آخر. انّ المصالحة لا يصنعها احدٌ غير السودانيين، ولذلك يمكن القول انّ التقاء الإرادة الدولية مع الإرادة الداخلية يبشّر بالخير، ففي النهاية يظل السلام السوداني أكبر خدمة يمكن ان تقدّم لعروبة السودان وللدول المحيطة بالسودان اكانت عربيةً أو غير عربية.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.