يعدّ اعتقال صدام حسين انتصاراً معنوياً للرئيس بوش الابن الذي واجه في شهر تشرين الثاني الماضي أسوأ شهر في العراق مع ازدياد العمليات التي تنفذها المقاومة وتطور نوعيتها. كان الرئيس بوش الابن في حاجة ماسة إلى انتصار كهذا، تبين في النهاية انه شكلي أكثر من أي شيء آخر، لسبب في غاية البساطة هو ان صدام حسين لم يكن في وضع القادر على قيادة المقاومة أو توجيهها. فالرجل مريض ومتعَب نفسياً إضافة إلى ان كل همه بدا محصوراً في الاختباء من الأميركيين مستعيناً بأفراد من عائلته وعشيرته ومن معرفة هؤلاء بالمنطقة التي يتحرك فيها.. وجاءت الخيانة في النهاية من أفراد العائلة والعشيرة!
سيتلهى العالم بعض الوقت بصدام، ذلك بأنه سيكون هناك مجال تساؤلات كثيرة من نوع ماذا لديه ليقوله، وكيف سيحاكم، وأين سيحاكم، وهل يواجه عقوبة الاعدام، ولكن لن تمضي فترة طويلة إلا ويعود الأميركيون إلى أرض الواقع، أي إلى المشاكل الحقيقية التي تواجه العراقيين وتلك التي يواجهونها هم في العراق، ولانعاش الذاكرة فقط، حصل في اليوم الذي أعلن اعتقال صدام ان هوجم مركز للشرطة في منطقة الخالدية الواقعة في المثلث السنّي، أدى إلى مقتل ما لا يقل عن سبعة عشر عراقياً. وفي المساء انفجرت سيارة قرب فندق فلسطين وسط العاصمة العراقية وسمع إطلاق رصاص في غير مكان ما يدل إلى ان المقاومة ليست مرتبطة بشخص الرئيس العراقي المخلوع بمقدار ما انها مرتبطة بمجموعات إسلامية متطرفة على استعداد لتنفيذ عمليات انتحارية تستهدف الأميركيين. وإلى إشعار آخر، ليس هناك في العراق أو خارج العراق مَنْ هو على استعداد للموت من أجل صدام الذي عرف دوماً كيف يحفر قبوراً لمواطنيه وأن يكرِّههم بشخصه. والدليل إلى ذلك ان أقرب الناس إليه كانوا يكرهونه بما في ذلك صِهراه حسين وصدام كامل اللذان فرّا إلى الاردن صيف 1995 ثم عادا إلى بغداد مع ابنتيه وأفراد عائلتهما ليقتلا بأوامر شخصية من صدام مع شقيقهما الثالث واختهما وأفراد عائلتها وآخرين. كذلك ليس سراً ما يشعر به أخوة صدام الثلاثة تجاهه بعد الإذلال الذي ألحقه بهم بما في ذلك التغاضي عن إطلاق نجله عديّ النار على عمه وطبان أوائل آب 1995 ما أدى إلى إصابته في رجله!
عاجلاً أم آجلاً، سيعود الأميركيون إلى الواقع العراقي، إلى بلد احتلوه وأسقطوا نظامه بحجة انه يمتلك أسلحة للدمار الشامل. وتبين مع الوقت ان لا وجود لهذه الأسلحة. سيتوجب عليهم معالجة التركة الثقيلة لصدام الذي أمضى ما يزيد على ربع قرن في تفكيك النسيج الاجتماعي للعراق فأثار السنة على السنة، والشيعة على الشيعة، والسنة على الشيعة، والشيعة على السنة، والعرب على الأكراد، وجفف الأهوار في الجنوب ونقل الأكراد من مناطق معينة في الشمال وطرد آلاف العائلات الشيعية من البلد بحجة أنها من أصول فارسية. فضلاً عن ذلك أقام نظاماً لا مكان فيه سوى للخوف والقتل... والرضوخ لأوامر "السيد الرئيس".
ماذا سيفعل الأميركيون بهذه التركة بعدما اعتقدوا، بفضل مستشاريهم من العراقيين الذين أمضوا سنوات طويلة في الخارج أن غزو العراق سيكون نزهة وأن من السهل التعاطي مع ما خلفه صدام؟
ان اعتقال صدام يوفر للإدارة الأميركية فرصة لالتقاط الأنفاس لا أكثر. ومن أجل استغلال هذه الفرصة بشكل مفيد لن يكون كافياً الحديث عن "مصالحة وطنية" كما فعل رئيس الوزراء البريطاني توني بلير أو الحاكم المدني للعراق بول بريمر، بل لا مفر من الاعتراف أولاً بأن لا شخصيات وطنية في العراق قادرة على جمع الناس حولها، فبعد اغتيال السيد عبد المجيد الخوئي الشخصية الوطنية البارزة في ظروف غامضة بعد عودته الى العراق في الأسبوع الثاني من نيسان الماضي، وبعد اغتيال السيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية قبل مئة يوم في ظروف أكثر غموضاً في النجف، لم تعد هناك بين الشيعة شخصيات يمكن أن توصف بأنها تاريخية. وقبل ذلك، تكفل صدام بالقضاء على أي سني يمكن أن يكون هناك التفاف وطني حوله، في حين أن الشخصية الوطنية والتاريخية الوحيدة عند الأكراد، أي مسعود بارزاني، فضلت أخذ مسافة معينة من الأجهزة التي شكلها الأميركيون على رأسها مجلس الحكم الانتقالي على الرغم من أنه عضو فيه.
ان الفراغ الذي خلّفه غياب الشخصيات الوطنية يمكن الاستعاضة عنه عبر التفكير بطريقة مختلفة تقوم على أن العراق لا يمكن أن تقوم له قيامة من دون الاعتماد على الركائز الثلاث للمجتمع أي السنة والشيعة والأكراد. فقد كانت أهمية النظام الملكي في العراق تكمن في أنه قادر على أن يكون قاسماً مشتركاً بين هذه الركائز. وفي غياب الملكية أو ما يشبه صيغتها، يبدو أن على الأميركيين إيجاد مخرج من الوضع الذي خلقوه يقوم على توازن سياسي واجتماعي جديد مختلف عن ذلك الذي حاولوا ترسيخه وفشلوا في الأشهر الثمانية الأخيرة.
وفي غياب هذا التوازن، لن تدوم فرحتهم باعتقال صدام طويلاً، بل سيجد الرجل وقتاً للضحك من خلف قضبان زنزانته لأنه سيكون قادراً على القول انه ترك بلداً لا يحكم، بلداً مفككاً لا قاسم مشتركاً بين أبنائه.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.