من ينظر الى المشهد الفلسطيني من بُعْد، يستغرب كيف انه يمكن التلهي بقضايا داخلية لا تستطيع دول ذات سيادة تتمتع باستقلال كامل وناجز ان تسمح لنفسها بالتلهي بها. استقالت حكومة محمود عباس (أبو مازن) التي كانت حكومة ارييل شارون تريد التخلص منها دون ان يتحدد الى الآن ما إذا كان للجانب الفلسطيني، الذي مارس دوراً مهماً في إسقاط الحكومة مصلحة في ذلك. وكلف رئيس السلطة الوطنية ياسر عرفات أحمد قريع (أبو علاء) تأليف حكومة بديلة فألف الحكومة من دون أن يؤلفها، حتى ان وزير الداخلية نصر يوسف رفض أداء اليمين أمام "أبو عمار" بعدما رفض الأخير إعطاءه كل الصلاحيات التي يطالب بها.
وعلى اثر تأليف حكومة قريع التي لا تزال في حاجة الى عدد لا بأس به من الوزراء والى ثقة المجلس التشريعي، شغر موقع مهم في السلطة الوطنية هو موقع رئيس المجلس التشريعي الذي كان يشغله "أبو علاء" ولا يزال هذا الموقع شاغراً منذ ما يزيد على شهر على الرغم من ان رئيس المجلس مؤهل دستورياً لشغل منصب رئيس السلطة موقتاً في حال حدوث طارئ لـ"أبو عمار" لا سمح الله! كيف يمكن ان يحصل ذلك ولماذا لا يزال المنصب شاغراً؟ ثمة حاجة الى منجم للحصول على جواب.
يحصل ذلك كله في وقت ليس معروفاً لماذا توقفت العمليات الانتحارية داخل ما يسمى "الخط الأخضر" طوال هذه الفترة على الرغم من استمرار ارييل شارون في ارتكاب جرائمه يومياً، بل ان شارون تفوق خلال هذه الفترة على نفسه في مجال ممارسة الإرهاب والقتل من دون ان يوجد في الجانب الفلسطيني من يسأل نفسه: ألم يكن مفترضاً ان تتوقف العمليات الانتحارية منذ فترة طويلة كي يفهم العالم ان الاحتلال هو الإرهاب، وأن لا علاقة بين ما يقوم به شارون والعمليات الانتحارية وان كل ما في الأمر أن الرجل قرر تكريس الاحتلال ومصادرة حقوق شعب بكامله وهو استخدم العمليات الانتحارية لتبرير أفعاله ونجح في ذلك الى حد كبير؟
من حسن الحظ انه وجد في الجانب الفلسطيني من سعى الى تجاوز الوضع الراهن عبر "وثيقة جنيف" التي تظهر ان في الإمكان الدخول في مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي والتوصل الى حل معقول ومقبول يخرج الجانبين من الطريق المسدود الذي وصل اليه. وإذا كان من نصيحة يمكن ان توجه حالياً الى السلطة الوطنية الفلسطينية فهي تختصر بأن عليها في هذه المرحلة الابتعاد عن التلهي بالتفاصيل والعمل للاستفادة من "وثيقة جنيف" التي قرر شارون محاربتها من منطلق انها "أخطر من اتفاق أوسلو".
ما حصل عملياً هو أن "وثيقة جنيف" كشفت ان رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يمتلك أي مشروع سياسي باستثناء العمل من أجل ضم مزيد من الأراضي الفلسطينية والسؤال البديهي لماذا لا تعلن السلطة الوطنية بوضوح انها تقبل الوثيقة وانها على استعداد لتطبيقها فوراً؟
لا يمكن تجاهل ان الفلسطينيين الذين تفاوضوا مع الإسرائيليين انما فعلوا ذلك بتغطية من ياسر عرفات، لكن ذلك لا يبدو كافياً في هذه المرحلة نظراً الى ان هناك حاجة ملحة فلسطينياً للرد على شارون سياسياً. وذلك ممكن إذا اعتمدت المؤسسات الفلسطينية كلها "وثيقة جنيف" وأكدت انها على استعداد لتطبيقها والتصدي للمتطرفين الذين يريدون إسقاطها بالقوة خدمة لشارون ومن لف لفه.
من حق أي فلسطيني الاعتراض على الوثيقة من الناحية السياسية، لكن واجب السلطة الوطنية الفلسطينية ألا تفوت على نفسها فرصة تأكيد انها لا يمكن ان تسمح للقوى المتطرفة باستخدام العنف لإسقاط "وثيقة جنيف".
يصعب التوصل الى أفضل من هذه الوثيقة في الظروف الراهنة خصوصاً إذا اخذت الظروف الداخلية والاقليمية والدولية في الاعتبار. واعتماد الوثيقة لن يعني أن الفلسطينيين يمتلكون مشروعاً سياسياً وانهم على استعداد للتخلي عن المماحكات الداخلية من أجل مناصب أقل ما يمكن ان توصف به انها شبه وهمية فحسب، بل سيعني ايضاً انهم جديون في التعاطي مع الأطراف الدولية على رأسها الإدارة الأميركية، وان في استطاعتهم إعادة مدّ الجسور معها مستفيدين من أخطاء الماضي، بما في ذلك تلك التي ارتكبت في قمة كامب ديفيد صيف العام 2000.
في حوار أجرته معها هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) أخيراً، قالت مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية حتى آخر العام 2000 ان ياسر عرفات خيب آمالها. وأضافت في الحوار الذي أجري معها بمناسبة صدور مذكراتها ان الزعيم الفلسطيني غير قادر على التخلي عن عاداته القديمة وهو لا يحسم عندما يجب ان يحسم. ربما كانت على حق، علماً بأن عرفات لم يحسم في كامب ديفيد لانه جُر الى القمة جراً ولم يعط الوقت الكافي للتحضير للاتفاق الذي كان مفترضاً ان يوقع في القمة. وهذا ما تتجاهله اولبرايت في حديثها عن الفرص الضائعة بسبب شخصية "أبو عمار"!
ولكن ما لا يمكن تجاهله هذه الأيام ان أموراً كثيرة تغيّرت منذ كامب ديفيد، بل ان العالم كله تغيّر بعد هجمات 11 أيلول 2001 وانه آن للفلسطينيين ان يتغيروا ايضاً وآن لقيادتهم الشرعية أن تحسم في اتجاه محدد من منطلق ان "وثيقة جنيف" ستساعدها في العودة الى الساحة الدولية من باب ما، قد يكون ضيقاً الآن ولكنه سيصبح أوسع في ما بعد... أوليس ذلك ما تريده هذه القيادة أو أنها ليست قادرة على الخروج من عقدة جمهورية الفاكهاني التي كانت قائمة في بيروت حتى العام 1982 والتي كلفت اللبنانيين والفلسطينيين الكثير!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.