بعد الذي حصل ويحصل في العراق، أي نموذج تستطيع الولايات المتحدة القول إنها تريد تقديمه للدول الأخرى في المنطقة. هل هو عراق مهدد. بحرب سنية ـ شيعية أو شيعية ـ شيعية أو بالإثنين معاً؟
أو عراق من دون سلطة مركزية تجعل الحاجة دائمة إلى قوة خارجية تحفظ الأمن فيها؟ أم عراق تتنافس على النفوذ فيه قوى اقليمية على رأسها إيران وتركيا يهمها أن تكون لديها موطن قدم فيه؟
تثير الجريمة التي وقعت في النجف قبل أسبوع وراح ضحيتها العشرات، في مقدمهم آية الله محمد باقر الحكيم رئيس "المجلس الأعلى للثورة الاسلامية"، وهو من أبرز الشخصيات الشيعية في العراق، مخاوف كبيرة ليس على مستقبل هذا البلد فحسب، بل على الصعيد الاقليمي ايضاً وذلك بغض النظر عن الجهة التي نفذت المجزرة. فاذا صحّت الاتهامات التي تطلقها بعض الجهات العراقية، والتي تؤكد فيها ان تنظيم "القاعدة" وراء العملية، على الرغم من أن هذه الاتهامات ليست دقيقة بالضرورة، يخشى أن يكون هناك من يسعى إلى فتنة سنية ـ شيعية في البلد. وقد نجح مطلقو الاتهامات في تحويل الأنظار عن جهات أخرى لها مصلحة في اغتيال الحكيم.
ان الاتهامات التي اطلقت في اتجاه تنظيم "القاعدة" في غاية الخطورة على المستويين العراقي والاقليمي. ولعل أكبر دليل على ذلك الهتافات التي اطلقت في الجنازة الرمزية لمحمد باقر الحكيم في بغداد وكان التركيز فيها على أهل تكريت والفالوجة وكأن المطلوب الانتقام من السنة في مناطق معينة من العراق تنفيساً عن احتقان تسبب فيه نظام صدام حسين، هذا النظام الذي لم يفرق في اضهاده للعراقيين بين شيعي وسني وعربي وكردي وتركماني... ومسيحي!
لا شك أن تنظيم "القاعدة" الذي يتزعمه أسامة بن لادن أو تنظيمات أخرى متطرفة على علاقة به لا تتردد في اقتراف مثل هذا النوع من الجرائم، وهناك معلومات شبه أكيدة ترجح أن متطرفين من السنة وراء نسف السفارةالأردنية في بغداد ثم مقر الأمم المتحدة في العاصمة العراقية. ولكن أن تتمكن تنظيمات سنية متطرفة من اختراق مدينة شيعية مثل النجف وزرع نحو 700 كلغ من المتفجرات في سيارات فجرت من بعد لقتل آية الله الحكيم وصحبه ومجموعة من الأبرياء بعد صلاة الجمعة، فان ذلك يحتاج أولاً إلى اختراق للحلقة الضيقة المحيطة بالحكيم نفسه بغية الاطلاع بدقة على الطريق التي يسلكها والمواعيد التي ارتبط بها.
لا يعني ذلك تبرئة "القاعدة" او المرتبطين بها بنسبة مئة في المئة، ولكن لا بد في المقابل من التحذير من النتائج التي يمكن أن تترتب على توجيه اتهامات بطريقة تُثير الغرائز في بلد يحتاج أول ما يحتاج إلى فترة نقاهة طويلة لازالة مخلفات النظام المخلوع الذي سعى الى القضاء على كل ما هو حضاري في المجتمع العراقي وعلى النسيج الاجتماعي للبلد.
ربما دفع السيد محمد باقر الحكيم ثمن اعتداله وسعيه إلى التعاطي مع الخصوصيات العراقية، بما يؤدي إلى قيام نظام ديموقراطي بالفعل بعيداً عن أي نوع من الديكتاتوريات أكانت باسم الدين أو العشيرة أو المنطقة أو العسكر. وكان ملفتاً انه لم يدعُ إلى مقاومة الأميركيين بالسلاح، بل دعا إلى إنهاء الاحتلال سلماً. كذلك شارك في مجلس الحكم الانتقالي بواسطة شقيقه السيد عبد العزيز وسعى إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية بما يتلاءم ومصالح الشعب العراقي. اضافة الى ذلك، يحمل على تعزيز دور النجف واستعادتها لموقعها التاريخي. بكلام أوضح، لم يسع رئيس "المجلس الأعلى للثورة الاسلامية" إلى نقل التجربة الايرانية إلى العراق على الرغم من انه أمضى 23 عاماً منفياً في هذا البلد.
من السابق لأوان توجيه أي اتهام إلى أي طرف في قضية اغتيال السيد محمد باقر الحكيم، لكن المخيف في الأمر أن المشروع الأميركي الهادف إلى الاستناد إلى شيعة معتدلين تلقى ضربة قوية هي الثانية بعد اغتيال السيد عبد المجيد الخوئي في النجف في نيسان الماضي بعد عودة الرجل إلى المدينة المقدسة من لندن عبر البحرين التي انطلق منها في اتجاه الأراضي العراقية في طائرة عسكرية أميركية. صحيح أن الحكيم والخوئي من مدرستين سياسيتين مختلتين. لكن الصحيح ايضاَ ان اغتيالهما يصب في اتجاه ضرب اي محاولة لقيام زعامة شيعية معتدلة من جهة ولاستعادة النجف دورها التاريخي من جهة أخرى.
يعتبر الابتعاد عن التحريض في هذه المرحلة، أكبر تكريم لفكر الراحل الكبير، لذلك من المفترض ألاّ يكون السباق في العراق بين حرب سنية ـ شيعية أو شيعية ـ شيعية أو الاثنين معاً، بل أن يكون التنافس على كيفية الاسراع في إنجاز الدستور وإخراج البلد من حال الاحتلال. والخطوة الأولى في هذا الاتجاه لا تكون تخوين المجلس الانتقالي بمقدار ما المطلوب السعي إلى تطوير التجربة التي يختزلها ومساعدة الحكومة الجديدة في تحمل مسؤولياتها على كل صعيد على أمل أن يحصل في المستقبل تصحيح للخلل القائم والمتمثل في تقليص دور السنة العرب وتحجيمهم سياسياً. هل كثير على العراقيين أن يحلموا بمستقبل أفضل أم مكتوب عليهم منذ حصول انقلاب 14 تموز 1958 أن يعتبروا اليوم أفضل من غد ويوم غد أفضل من الذي سيليه؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.