كان معروفاً منذ البداية، بغض النظر عما إذا كانت ليبيا مسؤولة عن كارثة لوكربي أم لا، ان هذه القضية لا يمكن أن تنتهي إلا بإقرار الجماهيرية بمسؤوليتها ودفع تعويضات مناسبة تصل إلى نحو ثلاثة مليارات دولار إلى ضحايا العملية الإرهابية.
وبإقدام ليبيا على هذه الخطوة، تكون تلك الدولة أظهرت انها فهمت جيداً المعادلات الدولية الجديدة، وفهمت خصوصاً ان المماطلة في إغلاق ملف لوكربي ليست في مصلحتها في أي شكل من الأشكال. ولعل أكثر ما فهمته ليبيا ان ثمن لوكربي يظل رخيصاً بالمقارنة مع ما كان يمكن ان تدفعه في حال تابعت سياسة المكابرة.
المهم انها بقبولها الصفقة المعروضة عليها، والتي تشمل الإقرار بالمسؤولية، انتهجت ليبيا سياسة تتسم ببعض المخاطرة، إذ سيظل هناك من يعتبر ان إقرارها بالمسؤولية عن عمل إرهابي أدى إلى مقتل 270 شخصاً يمكن ان يقود إلى ملاحقة مسؤولين كبار في مرحلة ما بهدف تقديمهم إلى محكمة دولية. مثل هذا الاحتمال يظل ضئيلاً جداً نظراً إلى ان الفريق الليبي الذي فاوض الأميركيين والبريطانيين طوال سنوات توصل إلى صيغ مناسبة تقطع الطريق على الملاحقات الناجمة من الإقرار بالمسؤولية. أما المبلغ الكبير الذي ستدفعه الجماهيرية إلى ضحايا لوكربي فيمكن اعتباره تعويضاً عما خسرته شركات النفط الأميركية من جراء عدم قدرتها على الاستثمار المباشر في حقول النفط الليبية منذ أواخر العام 1988 تاريخ حصول كارثة لوكربي ثم فرض عقوبات على هذا البلد في مرحلة لاحقة.
ولكن، أبعد من الاتفاق الذي توصلت إليه ليبيا مع الأميركيين والبريطانيين والذي سيؤدي إلى رفع العقوبات عنها، يمكن القول إن ما حصل يشمل تغييراً جذرياً في السلوك الذي انتهجته الجماهيرية منذ وصول العقيد معمر القذافي إلى السلطة في العام 1969، أي قبل أربعة وثلاثين عاماً. نعم، أربعة وثلاثون عاماً! وإذا كانت التحولات في السياسة الليبية حصلت تدريجاً، يظل ان أهم ما ميزها هو تلك القدرة على استيعاب الموازين الدولية والتعاطي معها، أي الانحناء أمام العاصفة على العكس مما فعله النظام العراقي الذي أبى إلا أن يركب رأسه، فأطاحت أميركا الرأس تاركة جسداً متهرّئاً ليس معروفاً كيف يمكن التغلب على مشاكله أقله في المدى المنظور وفي ظل استمرار الاحتلال الأميركي لهذا البلد.
ما فهمته ليبيا هو انها دولة نفطية وأن عين الأميركيين على النفط قبل أي شيء آخر، وأن المدخل لتفاهم في العمق مع واشنطن هو النفط. هذا أولاً، ولكنها فهمت ان أميركا كانت قادرة على تلبيس جريمة لوكربي لغيرها، لكنها أصرّت على تلبيسها لها لأن هذه الجريمة أتاحت لها فرصة العمر لتطويق نظام العقيد القذافي. وربما كان أفضل من لخص الموقف الأميركي من ليبيا مسؤول في واشنطن عمل في وزارة الدفاع قبل أن ينتقل إلى البيت الأبيض في العام 1995، فقد قال هذا المسؤول في جلسة خاصة رداً على سؤال: هل تعتبر بلاده ليبيا مسؤولة عن تفجير طائرة "بانام" فوق لوكربي عام 1988 أم ان جهات أخرى فعلت ذلك؟، فكان جواب هذا المسؤول الآتي: "لا يهمنا من ارتكب جريمة لوكربي، وجدنا مناسباً تحميل ليبيا المسؤولية، أردنا وضع هذا النظام في قفص ونجحنا في ذلك". هذا كل ما في الأمر. لقد مارست ليبيا في السبعينات والثمانينات أدواراً كبيرة تفوق حجمها بكثير. مارست هذه الأدوار على صعد مختلفة وفي أماكن مختلفة من العالم وصولاً إلى الفيليبين وايرلندا الشمالية واتهمت حتى بأنها وراء عملية خطف وزراء نفط "أوبك" في فيينا عام 1976، وهي العملية التي نفذها مباشرة الارهابي المعروف "كارلوس" صنيعة القيادي الفلسطيني الراحل الدكتور وديع حداد. لكن العالم تغير، وفهمت ليبيا ان لا مجال لأن تلعب دولة مثلها أي دور لا تقبل به أميركا. كان على ليبيا ان تنضبط وهذا ما فعلته. ولقاء انضباطها أمكن التوصل إلى الصفقة التي تظل أرخص بكثير من الثمن الذي كان يمكن ان يدفعه النظام ككل لو تعامل مع الأميركيين على طريقة صدام حسين.
بدأت ليبيا منذ فترة إصلاحات داخلية تشمل فتح السوق أمام القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية.
وكان الدليل الأول على ان العلاقة مع الأميركيين ستتحسن، الانفتاح الذي أبدته الشركات النفطية واهتمامها بنفطها وتطوير حقولها. فالنفط يظل المفتاح، وورقة النفط مهمة ليبياً ليس لأن الأميركيين في حاجة إليه، بل بسبب قربها من أوروبا، وهذا القرب يوفر لمن لديه حصة في نفطها القدرة على استخدام هذه الحصة كورقة ضغط سياسية. صار النفط الليبي ورقة سياسية من الأوراق التي تستخدمها أميركا في تعاطيها مع أوروبا.
خرجت ليبيا من القفص، ودفعت الثمن الواجب دفعه، لكن نظامها سيواجه تحديات كبيرة مستقبلاً في مقدمها تحدي الإصلاحات السياسية والاقتصادية في عالم لا يرحم، فهل يستطيع ذلك؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.