يمكن أن يساهم قتل عديّ وقصيّ نجلي صدام حسين في التغطية لبضعة أيام على المصاعب التي تواجه الأميركيين في العراق. بعد ذلك ستعود الأسئلة المحرجة عن الأسباب التي دعت الرئيس جورج بوش الابن الى اتخاذ قرار الحرب. هل صحيح أن بعض هذه الأسباب لا يتعدى كونه مجرد إشاعات لا أساس لها بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل العراقية وقصة شراء العراق كمية يورانيوم من النيجر لصنع قنبلة نووية؟
وسيزداد عدد الأسئلة والجهات التي ستطرح أسئلة، أقلّه لسببين: الأول أن موعد فتح معركة انتخابات الرئاسة الأميركية اقترب. إذ بعد الخريف المقبل، لن يعود في واشنطن مكان سوى لحملة بوش الابن الهادفة الى تجديد ولايته وحملة الحزب الديموقراطي لمنعه من ذلك عبر اختيار مرشح قادر على مواجهته. أما السبب الآخر فهو عائد الى أنه لا يمر يوم من دون سقوط قتيل أميركي في العراق. والأكيد ان قتل عديّ وقصيّ وحتى اعتقال صدام أو قتله لن يساهم في شيء على صعيد وقف أعمال المقاومة. كل ما في الأمر أن الرأي العام الأميركي ومعه الاعلام سيتلهيان لبعض الوقت بالذي حصل في الموصل يوم الثلاثاء 22 تموز، ثم يعود التركيز على الخسائر الأميركية وعلى كيفية التعاطي مع العراق والعراقيين. وكيفية التعاطي هذه علم في حد ذاته، لم يتقنه حتى الإنكليز على الرغم من خبرتهم الطويلة في المنطقة. فتركوا العراق في العشرينات في عهدة الهاشميين الذين ما لبثوا أن أخرجوا منه في العام 1958,. وبقية الرواية معروفة.
لا شك في أن التعاطي مع الوضع العراقي بعد انهيار حكم صدام حسين صار أكثر صعوبة وتعقيداً، ذلك ان الرجل حكم البلد بطريقة تضمن عدم تمكن أي خليفة له، حتى ولو كان ابنه من السيطرة على الوضع، فكيف يمكن لمجلس الحكم الانتقالي أن يساعد الأميركيين في تحقيق الاستقرار ما دام هذا المجلس ليس قادراً على انتخاب رئيس له أو توزيع المسؤوليات بين أعضائه؟
ربما كانت الفائدة الوحيدة للأميركيين من قتل عديّ وقصيّ، أن ما يعتبرونه "إنجازاً" سيتيح لهم التفكير بهدوء في مخرج من المستنقع العراقي يؤمن لهم الفوائد التي يأملون الحصول عليها من هذا البلد ويعفيهم في الوقت نفسه من المسؤولية المباشرة عن حفظ الأمن. وهذا يعني أن على الأميركيين التفكير في العودة الى الأمم المتحدة التي تجاهلوها لدى اتخاذهم قرار شن الحرب بمشاركة بريطانية من جهة والعودة الى التشاور مع الحلفاء التقليديين وعلى رأسهم فرنسا من جهة أخرى. فمع مرور الوقت، هناك إعادة اعتبار الى السياسة الفرنسية، والسياسة الفرنسية تقول الآن بلسان وزير الخارجية دومينيك دو فيلبان "إن الأمم المتحدة يجب ان تتولى المسؤولية المركزية في عملية إعادة بناء العراق"، وذلك على الصعد السياسية والاقتصادية والأمنية. ويضيف: "وحدها قوة سلام تشكلها الأمم المتحدة ستسمح بعملية شرعية وفاعلة" في العراق. بكلام آخر يؤكد دو فيلبان أن ثمة حاجة الى تدخل دولي تحت علم الأمم المتحدة لإعادة بناء العراق سياسياً واقتصادياً وأن الأميركيين لن يكونوا قادرين على ذلك وحدهم.
أوجدت فرنسا مخرجاً للولايات المتحدة، ويبدو أن وزير الخارجية الأميركي كولن باول بات مقتنعاً بأن لا مفر من العودة الى الأمم المتحدة فيما لا يزال نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد في موقع المعارض للعودة الأميركية الى بيت الطاعة الدولي.
في الأيام القليلة المقبلة، سيتبيّن هل سيكون على الإدارة الأميركية القبول بقرار جديد لمجلس الأمن يوفر لها بداية مخرج من العراق. مثل هذا القرار سيضع الأسس لدور جديد للأمم المتحدة في العراق بما يسمح بإنشاء قوة دولية يشارك فيها الأوروبيون والروس والعرب وربما دولة مثل الهند رفضت أخيراً أي بحث في إرسال قوات الى العراق تلبية لطلب أميركي. والهند من الدول القليلة القادرة على إرسال قوات بأعداد كافية (نحو 17 ألف رجل) ذات قيادة خاصة بها بما يتيح لها السيطرة على منطقة معيّنة في العراق وضمان الأمن فيها بإحكام.
من الآن، يمكن الحديث عن بداية تفكير أميركي في مقاربة جديدة للوضع العراقي تبدأ بالعودة الى الأمم المتحدة. وهذا ما دعا إليه تقرير وضعه خمسة من الخبراء العاملين مع مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الذي مركزه واشنطن. جاء هذا التقرير بعد زيارة الخبراء الخمسة للعراق وهو يشدد على أن عامل الوقت ليس في مصلحة الإدارة التي أقامها الأميركيون في العراق. وان هذه الإدارة "تفتقد من أجل أن تكون فاعلة الموظفين والمال والمرونة"، وان أعضاءها يشكون من أنهم "معزولون ومنقطعون عن العراقيين".
ما الذي ستفعله الإدارة الأميركية بعد الانتهاء من نشوة القضاء على عديّ وقصيّ؟ يبدو أن العودة الى الأمم المتحدة تظل الحل الأسلم والأقل كلفة للأميركيين، ذلك أن مثل هذه الصفقة التي يمكن التوصل إليها مع المنظمة الدولية ستسمح لبوش الابن بالمحافظة على ماء الوجه والقول لكوفي أنان (بالإذن من صحيفة "لوموند"): "انها صفقة رائعة يا كوفي. نحتفظ بالنفط ونسلمكم البلد مع مفاتيحه"! أوليس ذلك ما سعى إليه الأميركيون منذ البداية؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.