8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

بين العراق وألمانيا

تستطيع الولايات المتحدة الاعتماد على تجارب سابقة للقول إن الوضع في العراق أكثر من طبيعي وإن الحاجة الى الوقت ولا شيء غير الوقت لعودة الاستقرار الى البلد. "علينا التحلي بالصبر". هذا ما يقوله الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر الذي يضيف: "ليس لدى أي منا خبرة في هذا المجال"، مشيراً الى عملية إعادة بناء العراق على غرار إعادة بناء ألمانيا، مذكراً بأن الذين يعرفون شيئاً عن أمور من هذا النوع "تجاوزوا التسعين من العمر. لم نفعل ذلك منذ (تجربة) ألمانيا".
هل العراق ألمانيا كي نتفاءل بأن الولايات المتحدة ستنجح في هذا البلد العربي على غرار النجاح الذي حققته ألمانيا بعد التخلص من النظام النازي؟
ثمة ما يدعو الى التفاؤل، وثمة ما يدعو الى الحذر على الرغم من أن الأميركيين مصممون على الذهاب الى النهاية في مشروعهم العراقي. وهم يقولون لكل من يذكرهم بأن الأوضاع تدهورت منذ إطاحة صدام حسين ونظامه، خصوصاً الأوضاع المعيشية للمواطن، إنه بعد عامين من انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت المدن الألمانية لا تزال مدمرة، كذلك الاقتصاد الألماني.
وكانت هناك حاجة الى عامين إضافيين لتنضج السياسة الألمانية وينبثق منها دستور جديد. وبعد ذلك بست سنوات انتهى قانونياً الاحتلال الذي مارسه الحلفاء، واستعادت ألمانيا وضعها الطبيعي وقام اقتصادها من بين الأنقاض وعادت مدنها مدناً.
بكلام آخر، علينا استناداً الى هذه المعلومات والأرقام التي أوردتها مجلة "تايم" الانتظار عشر سنوات قبل زوال الاحتلال الأميركي ـ البريطاني من الناحية القانونية.
لا شك أن في استطاعة العراقيين الانتظار عشر سنوات إذا كان بلدهم سيصبح مثل ألمانيا، أو على الأصح شبيهاً بها. وقد استخدم الأميركيون تجربة ألمانيا وما حققته من أجل إسقاط الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، على رأسها نظام ألمانيا الشرقية. ولم يجد السوفيات وقتذاك مفراً من إقامة حائط برلين في عام 1961. وشكل الحائط أول دليل على عجزهم عن مجاراة الولايات المتحدة. وقد سقط الحائط في 1989 وكان انهياره مؤشراً الى انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه مع الأنظمة التابعة له... والنجاح الأميركي.
من أجل النجاح في ألمانيا وظفت الولايات المتحدة إمكانات وأموالاً ضخمة. كان فيها رجال ذوو رؤية على رأسهم الجنرال مارشال وزير الخارجية الذي وضع خطة لإعادة إعمار أوروبا.
هل هناك حالياً خطة أميركية لإعادة إعمار العراق، وهل هناك استعداد لتوظيف أموال ضخمة في هذا البلد؟
لا يمكن الشك في النيات الطيبة لبول بريمر الذي ما كان ليُرسل الى العراق لولا فشل سلفه الجنرال المتقاعد جاي غارنر الذي لم يمضِ في بغداد سوى أربعين يوماً. ولكن بعد مضي نحو ثلاثة أشهر وأسبوعين على دخول الأميركيين العاصمة العراقية، لا بد من ايراد بعض الملاحظات التي لا تدعو الى التفاؤل كثيراً. في طليعة هذه الملاحظات أن العمليات التي تستهدف القوات الأميركية تزداد يومياً وأن الأوضاع المعيشية للمواطن لم تتحسن.
أضافة الى ذلك إن القوى السياسية التي جاء بها الأميركيون الى العراق تتصرف في أحيان كثيرة على طريقة أمراء الحرب في لبنان في مرحلة كانت المعارك مشتعلة في البلد. أحد هؤلاء الأمراء "استأجر" منزلاً يملكه مسؤول سابق اسمه في لائحة الـ55 وهو معتقل حالياً في السجن القريب من المطار حيث صار السيد طارق عزيز نائب رئيس الوزراء سابقاً جاراً لـ"أبو العباس" الأمين العام لجبهة التحرير الفلسطينية، أكثر من ذلك إن أمير الحرب نفسه تحول شريكاً في مزرعة للدواجن تنتج كميات كبيرة من البيض في مقابل تأمين حماية للمزرعة...
مثل هذه الممارسات غيض من فيض، لكنها تعني أمراً واحداً هو أن الأميركيين لا يتصرفون في العراق كما يجب أن يتصرفوا.
وعلى الرغم من أن الإنجاز الذي تمثل في التخلص من نظام دموي لا مثيل له في العالم يعتبر ضخماً، إلا أن لا شيء يبرر وجود أناس فوق القانون في بغداد أو في أي مدينة أو قرية عراقية.
قد ينجح الأميركيون في العراق، لكن الشرط الأول لنجاحهم إعطاء الأمل للمواطن بأن المسؤولين السابقين، بمن فيهم أولئك الذين يعتبرون مسؤولين عن جرائم في حق الشعب والبلد، سيعاقبون بشدة بعد محاكمة عادلة، لكن الانتقامات لن تطاول عائلاتهم وأقاربهم. إضافة الى ذلك، لن يكون هناك أمراء حرب على الطريقة اللبنانية، وذلك لسبب في غاية البساطة هو أن هذه الحرب شنتها أميركا وليس المعارضة. وفي المفهوم العراقي ـ العراقي، كانت هناك في الماضي حرب من جانب واحد شنّها نظام على شعبه لا أكثر ولا أقل.
في نهاية المطاف، هناك نقاط التقاء بين تجربتي العراق وألمانيا، خصوصاً أن ما حصل في العراق، سيؤدي الى تغييرات جذرية في المنطقة كلها، لكن نقاط الالتقاء لن يعود لها معنى إذا لم يقرر الأميركيون منذ الآن أن القانون هو القانون وأن لا أحد فوق القانون. وكلما عاد أمراء الحرب الى منازلهم باكراً، وليس الى منازل غيرهم، يزداد الأمل في أن يتكرر في الشرق الأوسط ما حصل في أوروبا قبل خمسة وخمسين عاماً أو أكثر.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00