هل هو النظام الدولي الجديد الذي وُعِدنا به بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة؟ ام ان هذا النظام الذي بدأ يتبلور منذ التسعينات لم يظهر على حقيقته إلا في الأيام التي سبقت بدء الحرب على العراق؟
لا شك ان ما شهدناه أخيراً يعطي فكرة عن النمط الجديد للعلاقات الدولية التي تود الولايات المتحدة فرضها على الآخرين بما في ذلك الاتحاد الأوروبي الذي انقسم على نفسه وتحول مرة أخرى عن الأمم المتحدة، ليس بسبب الخلافات الأوروبية ـ الأوروبية فحسب، بل بسبب اضطرار كل دولة أوروبية إلى أن يكون لها موقفها من السياسة الأميركية من دون أي عودة إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي أيضاً. أكثر من ذلك، تبين ان لكل دولة أوروبية تفسيرها الخاص لقرارات مجلس الأمن حتى ان كل عبارة غامضة من نوع النتائج الخطيرة الواردة في القرار 1441 تتحمل كل أنواع التأويلات خصوصاً متى قررت الولايات المتحدة ان في الإمكان الذهاب إلى الحرب انطلاقاً من هذه العبارة.
ما يعنيه النظام الدولي الجديد بالنسبة إلى الولايات المتحدة ان النهاية الحقيقية للحرب الباردة تكون بإحداث تغيير في العراق ذلك ان التدخل في العراق يكرس الانتقال من سياسة استيعاب الأنظمة غير المرضي عنها إلى سياسة توجيه ضربات احترازية إلى النظام الذي لا يعجب واشنطن. والحجة واضحة، وتتلخص بأن أميركا ليست على استعداد لتحمل أي نظام يمتلك ما تسميه "أسلحة الدمار الشامل". وعبر عن هذه السياسة بوضوح جميع المسؤولين الأميركيين الحاليين بدءاً بالرئيس بوش الابن وانتهاء بمدير الوكالة المركزية للاستخبارات (سي.آي.ايه) جورج تينيت الذي لم يخف في عرض أخير له أمام الكونغرس ان الحروب الجديدة ستكون مع الدول التي تمتلك أسلحة للدمار الشامل.
ما تعنيه الحرب مع العراق حقيقة هو حصول تغيير جوهري في الطريقة الأميركية في التعاطي مع مشاكل العالم. ويمكن اختصار هذه الطريقة، بأن الأمم المتحدة مهمة وعلى حق في ما تفعله مع مؤسساتها مثل مجلس الأمن، عندما تكون في خدمة السياسة الأميركية. وإلا فإن الأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها لا قيمة لهما والنقاش الذي يدور فيهما إنما يدور في فراغ.
وما تعنيه هذه الطريقة أيضاً ان الولايات المتحدة لم تعد تستحي بتحديد الأهداف الحقيقية لسياستها. والدليل على ذلك ان الرئيس بوش لم يخف في خطاب ألقاه في أواخر شباط الماضي ان من أهداف الحرب على العراق تغيير الخريطة السياسية للشرق الأوسط. ويعتبر الرئيس الأميركي ان النظام الجديد الذي ستقيمه بلاده في العراق سيكون نموذجاً لدول المنطقة، ولم يتردد في القول ان الحرب على العراق ستسهل التوصل إلى حل بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
إنها سياسة تقسيم العالم بين من هو معنا ومن هو ضدنا، التي أقرها بوش بعد أحداث 11 أيلول 2001 والتي بات يعبّر عنها نائب الرئيس ديك تشيني الذي قال ان أحداث 11 أيلول غيّرت كل القوانين التي كانت متبعة أميركياً في مجال الدفاع عن النفس "إذا جلسنا ننتظر متمسكين بالقوانين المعمول بها في القرن العشرين، سيكون علينا تحمل نتائج كارثية اثر تعرضنا لهجوم ينطلق من بلد مثل العراق".
سيكون العراق حقل التجارب للسياسة الأميركية الجديدة. وعلى نجاح الحرب، سيتوقف الكثير، إذ سيعرف ما إذا كان في استطاعة الولايات المتحدة الاستمرار في تهميش الأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها وهل يعتبر الانقسام الذي تعاني منه أوروبا نجاحاً أم انه سيقود في المدى الطويل إلى فشل أميركي؟
اعتمدت السياسة الخارجية الأميركية في السنوات الخمسين الأخيرة على ثلاث ركائز، هي الأمم المتحدة والحلفاء في أوروبا وحلف الأطلسي الذي لم يعد له وجود كبير في حسابات واشنطن، نظراً إلى رفض الولايات المتحدة مشاركته في حرب افغانستان. وبات على كل دولة أوروبية عضو في الحلف ان تعد جيشاً خاصاً بها للمشاركة في الحروب الأميركية بصفتها دولة مستقلة لها علاقات خاصة مع اميركا بطريقة مباشرة وليس عبر حلف الأطلسي!
ان الحرب التي بدأتها الولايات المتحدة على العراق ستغير شكل العالم، وستحدد ملامحه في ضوء تشكيل نظام دولي جديد. إذا نجحت الحرب، سيبدأ العصر الأميركي، وإذا فشلت سيكون على إدارة بوش إعادة النظر في علاقاتها بما تسميه "أوروبا القديمة"، نظراً إلى انها ستكتشف ان الحكمة في السياسة الأوروبية مهما كانت قديمة وان تعابير الرئيس جاك شيراك كانت في محلها. وسيكتشف الرئيس الأميركي ان إصراره على الحرب، من دون غطاء من الشرعية الدولية ومن حلفاء مثل فرنسا والمانيا وحتى من روسيا ـ بوتين والصين كان مغامرة لن تؤدي إلى عدم تجديد ولايته بعدما ربط مصيره ببقاء صدام حسين في السلطة فحسب، بل إلى إعادة النظر في كل السياسات الأميركية أيضاً، على رأسها الطريقة المعتمدة لاقامة نظام دولي جديد يخلف نظام القطبين الذي صار يمكننا الترحّم عليه!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.