8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

عن استغلال الضعف الأميركي...

هل صحيح أن التوازن العالمي تغير وأن روسيا إستعادت، على وقع أحداث جورجيا، وضع القوة العظمى على غرار ما كان عليه الإتحاد السوفياتي قبل انهياره في العام 1992 من القرن الماضي؟ الجواب بكل بساطة ان هناك ضعفاً أميركياً ظهر من خلال أحداث عدة في أماكن مختلفة من العالم. هناك في المقابل رغبة روسية في إستغلال الضعف الأميركي والرد على ما تعتبره موسكو تحديات أميركية لا مبرر لها في مناطق نفوذ تقليدية لها، خصوصاً في البلدان المجاورة للأراضي الروسية. ولكن لا يزال من المبكر القول إن العالم عاد إلى أيام الحرب الباردة وأن هناك قطبين يتنافسان على النفوذ فيه. لا تزال الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم ولا تزال روسيا تحاول إستعادة مكانة معينة أفتقدتها منذ ما قبل عقدين وتعتقد أن الظروف مواتية لتحقيق بعض من طموحاتها.
يفترض في من يفكر حالياً في أن روسيا باتت قادرة على منافسة الولايات المتحدة أن يتذكر أمرين. الأول أن الإتحاد السوفياتي إنهار لأسباب أقتصادية أولاً وأخيراً. سقط الإتحاد السوفياتي لأنه كان عملاقاً عسكرياً يقف على ساقين ضعيفتين. من كشف الضعف السوفياتي كان رونالد ريغان الذي أمتدت رئاسته بين العامين 1981 و1988 من القرن الماضي. تحدث ريغان بعيد توليه الرئاسة عن "أمبراطورية الشر" ثم أدخل الإتحاد السوفياتي في لعبة سباق التسلح عندما أعلن مشروع "حرب النجوم" الذي يستهدف من الناحية النظرية بناء شبكة دفاعية في الجو تحمي الأراضي الأميركية من الصواريخ العابرة للقارات. فشل الإتحاد السوفياتي في مجاراة الولايات في سباق التسلح لأسباب أقتصادية أولاً. لم يستطع ميخائيل غورباتشوف الذي خلف العجوز قسطنطين تشيرننكو في العام 1985 وصار الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي سوى الوقوف موقف المتفرج من عملية تفتت النظام من داخل. أدرك متأخراً أن الخلل اقتصادي وأن اصلاح النظام صعب للغاية، بل مستحيل. أطلق شعاري "غلاسنوست" و"بريسترويكا" وترجمتهما التقريبية "الشفافية" و"إعادة بناء الأسس التي يقوم عليها النظام"، لكنه اكتشف أن الخلل بنيوي وأن العلة أعمق بكثير مما يعتقد خصوصاً بعد إنهيار جدار برلين في تشرين الثاني 1989. قبل ذلك، وقع حدث في غاية الأهمية تمثل في سقوط النظام الماركسي في ما كان يسمّى اليمن الجنوبية نتيجة فقدان الإتحاد السوفياتي القدرة على التحكم باللعبة السياسية والتجاذبات داخل البلد. حصل ذلك في الثالث عشر من كانون الثاني ـ يناير 1986. لم تجد موسكو بدّا من اللجوء إلى البحرية البريطانية لإخراج رعاياها من عدن. وتولى يخت الملكة، وكان إسمه "بريتانيا" نقل المواطنين السوفيات إلى شاطئ الأمان. تبين في حينه أن عبارة الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ عن أن "الإمبريالية نمر من ورق" تنطبق على الإتحاد السوفياتي وليس على الدول الرأسمالية على رأسها الولايات المتحدة.
أما الأمر الثاني الذي يفترض في أن يتذكره أولئك الذين يعتقدون أن روسيا إستعادت قدرتها على منافسة الولايات المتحدة، فهو أن حجم الأقتصاد الأميركي، على الرغم من ارتفاع أسعار النفط الذي يصب في مصلحة روسيا، يفوق حجم الإقتصاد الروسي بست عشرة مرة تقريبا. إستنادا الى مجلة "ايكونوميست" الجدية يبلغ حجم الإقتصاد الأميركي 12417 مليار دولار في حين أن حجم الإقتصاد الروسي في السنة 2008 هو 764 مليار دولار! وتأتي روسيا خلف كل من اليابان وألمانيا والصين وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واسبانيا وكندا والهند والبرازيل وكوريا الجنوبية والمكسيك. وتتقدم روسيا في حجم إقتصادها على اوستراليا وهولندا وسويسرا وتركيا... نعم حجم الإقتصاد للبلد الصغير الذي إسمه سويسرا أكبر من حجم الإقتصاد التركي.
ماذا يعني ذلك كله. يعني أن روسيا قادرة على المناورة في مناطق قريبة منها مثل جورجيا معتمدة على الأخطاء التي ترتكبها إدارة أميركية في آخر أيامها ورئيس جورجيا ميخائيل سكاشفيلي الذي أساء التصرف، بل تصرف برعونة، عندما أعتقد أن العالم "الحر" سيهب لنجدته بمجرد أن تقدم روسيا على تحرك عسكري في إتجاه الأراضي الجورجية. حتى الآن، لا يزال كبار المسؤولين الأميركيين يؤكدون أن لا مجال لأي عمل ذي طابع عسكري للرد على التصرف الروسي. واكتفت الإدارة الأميركية بتصعيد لهجتها وبتوقيع إتفاق مع بولندا في شأن "الدرع الصاروخية" التي يعترض الروس عليها.
ليست روسيا وحدها التي تحاول الأستفادة من الضعف الأميركي في الأشهر الأخيرة من إدارة بوش الإبن. إيران تحاول ذلك ومعها النظام السوري. لم تكن "غزوة بيروت" الأخيرة التي نفذها "حزب الله" في أيارـ الماضي سوى جانب من المحاولات الهادفة إلى إستغلال هذا الضعف وفرض واقع سياسي جديد في لبنان مبني على تغيير في التوازنات الداخلية. لم ينجح المحور الإيراني ـ السوري في ذلك كلياً بعدما تبين أن لبنان يقاوم وأن اللبنانيين الشرفاء على استعداد للمقاومة وأنهم لم يراهنوا يوماً على الإدارة الأميركية ولا على غيرها في معركة الحرية والسيادة والأستقلال التي لا تزال مستمرة.
في النهاية، هناك ما يدل على أن الولايات المتحدة لا تزال، على الرغم من غرقها في الوحول العراقية وعلى الرغم مما تواجهه في أفغانستان وما ستواجهه في باكستان قريباً، القوة العظمى الوحيدة في العالم. من لديه شك في ذلك، يستطيع أن يطرح على نفسه السؤال الآتي: مع من تريد روسيا عقد صفقة في شأن مناطق نفوذها في البلقان والقوقاز؟ مع من يريد النظامان الإيراني والسوري التفاهم في شأن ضمان مستقبلهما والنفوذ الإقليمي الذي يحلمان به؟ أليس مع الولايات المتحدة وليس مع غيرها؟

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00