كان لا بد من التحرك عربيا في إتجاه العراق. ما فعله النائب سعد الحريري، نجل شهيد لبنان والعروبة الصادقة المنفتحة، كان خطوة في هذا الإتجاه. تمثلت الخطوة في توجهه إلى بغداد ولقاء كبار المسؤولين فيها. لم يكتف سعد الحريري بالإجتماع برئيس الجمهورية جلال طالباني ورئيس الوزراء نوري المالكي وسياسيين آخرين من كل الإتجاهات، بل زار أيضاً النجف وقابل آية الله السيستاني المرجعية الشيعية الكبيرة التي تؤمن بالدولة وبناء مؤسسات الدولة والعيش المشترك بين المذاهب والطوائف بعيدا عن أي نوع من التزمت والأنغلاق.
لم يكن طبيعيا التفرج على ما يجري في العراق والاكتفاء بالقول إن البلد ضاع وإنه لم يعد جزءا من المنظومة العربية وأنه صار مقسّما أو بلدا من دون هوية واضحة. على الرغم من تعقيدات الوضع العراقي والتهديدات التي يتعرض لها البلد، كان الخيار واضحا. أنه بين الوقوف على الحياد من جهة والسعي إلى لعب دور ايجابي في التأثير على الأحداث من جهة أخرى. بدل لعن الظلام، يمكن أضاءة ولو شمعة كما يقول المثل الصيني. ما يفعله بعض العرب الذين يمتلكون حدّاً ادنى من الرؤية المستقبلية في هذه المرحلة بالذات هو إضاءة شمعة في الظلمة العراقية بدل الإكتفاء بلعن الظلام. هناك فرصة لتحرك ما في العراق. حسناً فعل من ألتقط الفرصة نظرا إلى أن العراق يشهد تطورات في غاية الأهمية لا يمكن تجاهلها في أي شكل.
قبل كل شيء، لا مفرّ من الاعتراف بأن تحسنا طرأ على الوضع الأمني في هذا البلد العربي المهم الذي يُعتبر ركيزة من ركائز التوازن القليمي القائم منذ العشرينات من القرن الماضي بعد إنهيار الدولة العثمانية إثر الحرب العالمية الأولى ونشوء الكيانات السياسية القائمة حاليا ومن بينها العراق نفسه بحدوده الراهنة. ما يشير إلى تحسن الوضع الأمني في العراق توقف عمليات التطهير ذات الطابع المذهبي في مختلف مناطق العراق بما في ذلك بغداد. ثمة من يقول إنه لم تعد أحياء مختلطة في بغداد وإن التطهير حصل ولم يعد مجال لأخراج السنة من الأحياء ذات الأكثرية الشيعية أو الشيعة من الأحياء ذات الأكثرية السنية، نظرا إلى أنه لم يعد هناك شيعة في الأحياء السنية ولا سنة في الأحياء الشيعية. هذا صحيح إلى حد ما، ولكن ما لا بد من الاعتراف به في الوقت ذاته، وما قد يكون صحيحا أكثر، أن الجو العام تحسن بعدما أظهرت حكومة نوري المالكي أنها تعبّر إلى حدّ كبير عن رغبة في أن يكون العراق بلداً لجميع العراقيين أوّلا وأن يكون شيعة العراق مختلفين عن شيعة إيران، أي أن يكونوا عرباً غير تابعين لنظرية "ولاية الفقيه" التي تحاول إيران غزو العالم العربي من خلالها.
حصل تحسن في الوضع الأمني في العراق عموما. لا يمكن تجاهل هذا الواقع. كما لا يمكن تجاهله أيضا أن الإيرانيين لم يكونوا مرتاحين إلى نتائج معركة البصرة الأخيرة ثم معركة السيطرة على مدينة الصدر في بغداد. لم ينتصر الجيش العراقي في تلك البصرة بشكل حاسم. لكن ذلك لا يمنع من الإقرار بأن معركة البصرة كانت إشارة إلى رغبة المالكي في الحدّ من النفوذ الإيراني الذي يمارس عليه بشكل مباشر. إنه تحد كبير لرجل مثل رئيس الوزراء العراقي الحالي الذي يحاول القول أنه عراقي أولاً... ويؤكد ذلك بالأفعال وليس بمجرد الكلام يدعمه رجل دولة حقيقي إسمه جلال طالباني.
لم يكن ممكناً ترك العراق فريسة لأي قوة خارجية. كان لا بد من مساعدة العراق والعمل في الوقت نفسه على إيجاد توازن معين في العراق يصبّ في مصلحة وحدة البلد أوّلا من دون المس بالتنوع العرقي والمذهبي والطائفي الذي يتميّز به والمحافظة على استقلاليته. باختصار شديد، كان على العرب القيام بدور ما. زار وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد بغداد قبل نحو شهر ونصف شهر، ثم عيّن الأردن سفيرا في بغداد مع استقبال الملك عبدالله الثاني لرئيس الوزراء العراقي في عمان. ترافق ذلك مع انفتاح كويتي وبحريني على العراق وقد عينت الكويت قبل أيام سفيرا في بغداد أيضاً. فوق ذلك كله، زار المالكي أبوظبي يومي الأحد والأثنين في السادس والسابع من تموز الجاري وأجرى محادثات مع كبار المسؤولين في الإمارات على رأسهم الشيخ خليفة بن زايد رئيس الدولة وكبار المسؤولين في الدولة. لم تكتف الإمارات بتقديم الدعم السياسي للمالكي وحكومته وللعراق كعراق، بل شطبت في الوقت نفسه الديون العراقية والتي تبلغ نحو سبعة مليارات دولار. والمبلغ يشمل الدين الأصلي المترتب على العراق والفوائد على الدين. إنه رهان حقيقي على الأستقرار في المنطقة وفي العراق نفسه من أجل تأمين توازن يقوم أولا وأخيرا على عراق متصالح مع نفسه قادر على احتواء مشاكله الداخلية ومعالجتها بعيدا عن التأثير الإيراني وغير الإيراني... بما في ذلك التأثير الأميركي بحدود معيّنة طبعاً. لا يستطيع العراق في نهاية المطاف التعاطي مع الولايات المتحدة والتوصل إلى معاهدة أمنية معقولة معها في غياب حدّ أدنى من التوازن في العلاقة بين الجهتين. هذا التوازن لا يؤمّنه سوى حد أدنى من الدعم العربي للحكومة العراقية. جاءت زيارة سعد الحريري لبغداد والنجف لتصب في هذا الإتجاه... بما يخدم العراق ولبنان في آن، بما يخدم كل ما من شأنه إبعاد العرب عن الصراعات المذهبية التي لا تصب سوى في خدمة اسرائيل.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.