ثمة من يراهن حاليا على ان عهد بوش الابن انتهى قبل ان ينتهي فعلا في غضون تسعة اشهر، اي لدى انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة. يقوم هذا الرهان على ان الرئيس الاميركي الحالي بات بطة عرجاء ولم يعد في استطاعته الاقدام على اي عمل عسكري من اي نوع كان او حتى على مبادرات سياسية ذات طابع هجومي. قبل ذلك كان رهان النظام السوري على انتهاء عهد جاك شيراك وعلى ان خليفته سيكون مختلفا. جاء الخليفة وتبين انه لا يستطيع ان يكون مختلفا الا في حدود معينة. لا بد من الاعتراف بأن نيكولا ساركوزي حاول التعاطي مع النظام السوري بطريقة مختلفة وبذل جهدا حقيقيا في هذا الاتجاه. اراد فتح صفحة جديدة بين باريس ودمشق الى ان اكتشف ان ذلك ليس ممكنا وأن شيراك كان على حق. ليس في الامكان التعاطي مع نظام لا يفكر سوى بالعودة الى لبنان. ليس في الامكان التعاطي مع نظام لا هم له سوى تفكيك التركيبة اللبنانية عن طريق تعطيل المؤسسات، كل المؤسسات، في الوطن الصغير. ليس في الامكان التعاطي مع نظام لا يريد ان يعترف بأن مشروعه اللبناني انهار كليا وأن عليه الانصراف الى الاهتمام بهموم الشعب السوري بدل الهرب من الاستحقاقات الداخلية الى وهم الدور الاقليمي. كان هناك دور اقليمي لسوريا عندما كان هناك قرار اميركي في هذا الشأن. كان هناك قرار اميركي بأن تتولى سوريا "وضع اليد" على منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. نفّذ النظام السوري الدور المطلوب منه بعدما خلق كل الظروف الملائمة كي يتحول الى الطرف الوحيد القادر على الحؤول دون تطور الحرب في لبنان الى نزاع اقليمي. كان هنري كيسينجر وزير الخارجية الاميركية في تلك المرحلة يبحث عن صيغة لاحتواء الوضع اللبناني بعد تفجره في الثالث عشر من نيسان 1975. وجد ضالته في النظام السوري لا اكثر ولا اقل...
استمر هذا الدور حتى العام 1982. استطاع النظام السوري منع قيام نظام قوي في لبنان باغتياله الرئيس المنتخب بشير الجميل ثم بالاستفادة من الحرب الباردة لاستعادة المبادرة لبنانيا. عمل كل ما يجب عمله من اجل افشال عهد الرئيس امين الجميل الذي سعى الى صيغة تعايش لبنانية ـ سورية كان افضل تعبير عنها رفض الرئيس اللبناني الذي استمر عهده بين العامين 1982 و1988 توقيع اتفاق السابع عشر من ايار. اخذ امين الجميل في الاعتبار، لدى اقدامه على خطوة الامتناع عن توقيع اتفاق السابع عشر من ايار، ان اسرائيل نفسها لم تكن تريد الاتفاق وأن كل همها كان محصورا في جعل سلطة الرئيس اللبناني لا تتجاوز حدود قصر بعبدا. اليس هذا ما سعى اليه النظام السوري منذ اللحظة التي دخل فيها عسكريا الى لبنان؟
لا يزال النظام السوري يعيش عقدة مرحلة العامين 1983 و 1984 عندما استطاع تغيير المعطيات في لبنان وتجييرها لمصلحته. ينسى ان لبنان تغيّر وأن المنطقة تغيّرت وأن العالم كله تغيّر وأن الحرب الباردة انتهت. روسيا بوتين ليست الاتحاد السوفياتي في عهد اندروبوف. عهد اندروبوف لم يستمر طويلا، لكنه كان كافيا كي تستعيد دمشق المبادرة في لبنان في غياب حماسة اسرائيلية لمتابعة الحملة التي بدأها شارون في حزيران يونيو من العام 1982. حققت اسرائيل هدفها من الحملة بإخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. لكنها فشلت في اخضاع لبنان ففضلت الانسحاب ومعاقبته عن طريق منع الرئيس اللبناني من ممارسة مهماته وحصرها بمساحة لا تتجاوز قصر بعبدا ومحيطه، على حد تعبير رئيس الوزراء اسحق شامير ووزير الدفاع موشي ارينز اللذين خلفا مناحيم بيغن وأرييل شارون في هذين الموقعين.
استفاد النظام السوري في العامين 1983 و 1984 من عوامل عدة من بينها الانكفاء الاميركي نتيجة العمليات التي بدأت تشنها تنظيمات تدور في الفلك الايراني كانت نواة "حزب الله". ومن بين هذه العمليات تفجير مقر المارينز قرب مطار بيروت ومقر قيادة الوحدة الفرنسية العاملة في اطار القوة المتعددة الجنسية التي كانت في لبنان في تلك المرحلة. هل تتكرر التجربة الان؟
الجواب بكل بساطة ان التجربة لا يمكن ان تتكرر. هذا ليس عائدا الى اسباب مرتبطة بالوضع الاقليمي والدولي المختلف كليا عما كان في 1983 و1984 فحسب، بل الى ان اللبنانيين تغيروا ايضا. صحيح ان الفراغ العسكري الذي نجم عن الانسحاب السوري من لبنان عوضه "حزب الله" الذي يمتلك جيشا خاصا به يعتبر لواء في "الحرس الثوري" الايراني، لكن الصحيح ايضا ان هناك كتلة لبنانية متراصة تضم مواطنين من كل الطوائف والمذاهب والمناطق والطبقات الاجتماعية قادرة على مواجهة المحاولات السورية للعودة الى الوطن الصغير. هذه الكتلة اظهرت مدى قوتها في الرابع عشر من شباط الجاري عندما نزل المواطنون الى الشارع لتأكيد مدى تعلقهم بالقيم والمبادئ التي كان يمثلها رفيق الحريري على رأسها الاستقلال ورفض الوصاية. تكمن اهمية ما حصل في ذلك اليوم، في الذكرى الثالثة لاستشهاد رفيق الحريري، في ان اللبنانيين، الشرفاء فعلا، اتخذوا قرارا يتعلق بمصير بلدهم. نزلوا الى الشارع ليقولوا ان القرار بالصمود قرار لبناني اولا وأخيرا، انه قرار مسلم ـ مسيحي لبناني قبل اي شيء آخر. اللبنانيون جروا المجتمع الدولي الى الوقوف مع قضيتهم وليس العكس. المشكلة ان النظام السوري على غير استعداد للتعاطي مع الواقع اللبناني الجديد وأخذ العلم به. لا يزال يراهن على تغيير في الموقف الاميركي وعلى حرب اهلية يظن انه قادر على اشعالها في لبنان. انهما رهانان خاسران سلفا. من يعش يرَ ان ليس في الامكان تطبيق سياسات العامين 1983 و1984 في السنة 2008.. وأن المحكمة آتية، آتية، آتية.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.