لا يمكن إلا دعم عملية تبادل الأسرى والجثث بين "حزب الله" وإسرائيل وذلك لاعتبارات "إنسانية" على حد تعبير الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله... لو كانت هذه "الإنسانية" تنسحب على اللبنانيين أيضاً. كان ملفتاً أن نصرالله لم يتردد في إعطاء الحدث أهمية كبيرة من منطلق إنه يمهد لمفاوضات أخرى مع العدو الإسرائيلي من أجل إنهاء ملف تبادل الأسرى بين الجانبين من فوق مؤسسات الدولة اللبنانية...
بعيداً عن كل أنواع اللف والدوران، لا يمكن فهم الطريقة التي تصرف بها "حزب الله" سوى من زاوية أنها ضربة أخرى يوجهها الحزب إلى الدولة اللبنانية ومؤسساتها بهدف اظهارها في مظهر الدولة العاجزة التي لا تمتلك قرارها. إنه يعطي الدليل تلو الدليل على أنه الدولة في لبنان وانه ليس صاحب قرار الحرب والسلم فحسب، بل إنه قادر أيضاً على تفتيت لبنان وأن هدفه النهائي تدمير البلد ما دام ذلك يخدم المحور الإيراني ـ السوري الذي لا يريد أن يسمع سوى بلبنان "الساحة".
من الواضح أن إسرائيل هي المشجع الاول على مثل هذا النوع من السياسات، هي التي سعت باستمرار إلى دعم كل ما يصب في شرذمة المنطقة وتفتيتها على غرار ما يحصل حالياً في العراق ... الذي كان إلى ما قبل سنوات قليلة دولة عربية. أين مشكلة إسرائيل مع حزب مذهبي لا يؤمن بالكيان اللبناني همه الأول والأخير خدمة النظام السوري وتمكين إيران من أن تكون على شاطئ المتوسط وأن تكون في الوقت ذاته قادرة على التحكم بالقرارات المصيرية المتعلّقة بلبنان. أكثر من ذلك، أين مشكلة إسرائيل مع حزب يستكمل الحرب التي شنتها الدولة العبرية على لبنان واللبنانيين والبنية التحتية للبلد عن طريق إقامة مخيم للبؤس والبؤساء والبائسين في وسط بيروت.
لعل أهم ما في عملية تبادل الأسرى والجثامين الأخيرة بين "حزب الله" واسرائيل انها تؤكد رفض الحزب لمؤسسات الدولة اللبنانية من جهة واصراره على الذهاب بعيداً في تدمير هذه المؤسسات والحياة السياسية والإقتصادية في الوطن الصغير من جهة أخرى.
كل ما أراد الحزب قوله عبر عملية التبادل مع إسرائيل إنه اتخذ قراراً نهائياً بتحويل سلاحه في اتجاه الداخل، في اتجاه صدور اللبنانيين. لن يكتفي الحزب بعد الآن بحماية القتلة الذين نفذوا كل الجرائم التي ارتكبت منذ محاولة اغتيال الوزير مروان حماده في أول تشرين الأول ـ أكتوبر 2004 وانتهاء باغتيال النائب أنطوان غانم في أيلول الماضي، بل إنه على استعداد تام لتعطيل المؤسسات بشكل نهائي كي تكون هناك رسالة واضحة موجهة إلى العالم فحواها أن لبنان لن تقوم له قيامة ما دام المجتمع الدولي مصر على السير في المحكمة الدولية. تلك المحكمة التي ستلاحق قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه وكل الذين ارتكبوا الجرائم الأخرى في الأعوام 2004 و2005 و2006 و2007 بدءاً بجريمة التمديد للرئيس اميل لحّود التي تسببت بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في أيلول ـ سبتمبر من العام 2004.
لا يمكن ادراج الغزل بين إسرائيل و"حزب الله"، الذي كشفته عملية التبادل الأخيرة، سوى في سياق المشروع الايراني الذي لا مكان فيه للبنان بصيغته الحالية، أي لبنان العيش المشترك المنفتح على العالم من دون عقد، لبنان المزدهر، لبنان العربي الذي لا مكان فيه لكانتونات ودويلات مذهبية أو لسلاح غير سلاح الجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية اللبنانية...
هل يصمد لبنان في وجه المشروع الأيراني الذي يبدأ في طهران وينتهي في غزة؟ الجواب أن بين العوامل التي يمكن أن تساعد الوطن الصغير على الخروج منتصراً من محنته صمود رجالاته الكبار، رجالات الرابع عشر من آذار ورفضهم الابتزاز الذي يمارسه "حزب الله" وأدواته المستأجرة من يتامى النظام الأمني السوري ـ اللبناني ومن الذين انضموا إلى جوقة اليتامى حديثاً من نوعية ذلك المهرج برتبة جنرال!
إن العامل الداخلي اللبناني في غاية الأهمية في معركة الصمود في وجه عملية تقويض الأسس التي يقوم عليها البلد وتغيير تركيبته السكانية. يحصل ذلك، عن طريق ما هو أسوأ من اتفاق القاهرة الذي مكّن المنظمات الفلسطينية من استباحة البلد ابتداء من العام 1969 من القرن الماضي. نعم، إن المشروع الإيراني، بطابعه المذهبي الذي لا يمكن ألا ان يلتقي في مكان ما مع المشروع الإسرائيلي الذي يعتبر "حزب الله" رأس حربته، يشكل خطراً أكبر من ذلك الذي شكله اتفاق القاهرة. لكن العامل الداخلي لعب دوراً أساسياً في كشف أبعاد هذا المشروع باكراً وخلق ديناميكية جعلت المجتمع الدولي يدرك قبل فوات الأوان أن الوضع اللبناني مرتبط بالصراع الأقليمي. ستكشف الأسابيع القليلة المقبلة إذا كان باستطاعة المجتمع الدولي مساعدة لبنان واللبنانيين بعدما ساعدوا أنفسهم أوّلاً؟ ما يدعو إلى التفاؤل قليلا ان "حزب الله" صار مكشوفاً. ما هذه "الإنسانية" تجاه إسرائيل وما هذه الوحشية تجاه اللبنانيين التي يعبّر عنها أفضل تعبير الاعتداء على الأملاك الخاصة والعامة وسط بيروت!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.