لعلّ أكبر كذبة يطلقها المسؤولون السوريون هذه الأيام "أن سوريا صارت في سوريا ولبنان صار في لبنان". هذه النكتة لا تنطلي سوى على أدواتهم من مستوى ميشال عون أو وئام وهاب وما شابههما من الذين يرفضون رؤية الحقيقة. هذه الحقيقة المتمثلة بأن ثمة علاقة ما للنظام السوري بالاغتيالات التي كان لبنان مسرحاً لها في السنوات الثلاثين الأخيرة بدءاً بكمال جنبلاط وانتهاء ببيار أمين الجميّل مروراً بعشرات الشهداء على رأسهم الرئيس رفيق الحريري، باني لبنان الحديث، والنائب باسل فليحان ورفاقهما والحبيب سمير قصير والمناضل العربي جورج حاوي والأخ الحبيب والزميل جبران تويني. ربما لا يتسع المجال لذكر العشرات من الذين اغتيلوا في ظل الهيمنة السورية على لبنان، ولكن لا مفر من الإتيان على ذكر الشيخ بشير الجميّل والمفتي حسن خالد والشيخ صبحي الصالح وسليم اللوزي ورياض طه والرئيس رينيه معوض ومئات الجنود والضباط الذين وقفوا في وجه الاجتياح السوري لقصر بعبدا في تشرين الأول من العام 1990. وقتذاك فرّ ميشال عون الى منزل السفير الفرنسي وترك الضباط والجنود يذبحون.
كلاّ، سوريا ليست في سوريا ولبنان ليس في لبنان. على العكس من ذلك، يعتبر النظام السوري منذ اغتيال رفيق الحريري وخروج قواته من لبنان أنّه بات يمتلك حرية أكبر في التدخل في الشؤون اللبنانية عن طريق أدواته أو أدوات غيره مثل "حزب الله" ذي المرجعية الإيرانية. لذلك لا يمكن للنظام السوري التوقف عند حدود معينة في سياق الانقلاب الذي يسعى الى تنفيذه. يعتقد النظام السوري أنّه سيكون قادراً على تجاوز كلّ الحدود والعودة مجدداً الى لبنان. إنه يؤمن بأنه ترك ما يكفي من الألغام في لبنان يفجرها في الوقت المناسب بما يضمن أستدعاءه مجدداً لإطفاء الحرائق في الوطن الصغير.
مشكلة النظام السوري في غاية البساطة. إنّه لا يعرف أن دخوله الى لبنان كان بغطاء أميركي وبموجب قرار اتخذه أواخر العام 1975 هنري كيسنجر، وزير الخارجية وقتذاك، بهدف واضح كلّ الوضوح هو وضع اليد على منظمة التحرير الفلسطينية. أما الخروج من لبنان، فكان بموجب قرار اتخذه المجتمع الدولي. لم ينفّذ القرار إلاّ بعد نزول اللبنانيين الى الشارع إثر استشهاد رفيق الحريري. من أخرج القوات السورية من لبنان كان جميع اللبنانيين. لم يخرج لأنّ المسيحيين نزلوا الى الشارع، بل لأنّ كل اللبنانيين مسيحيين ومسلمين نزلوا مطالبين بنهاية عهد الوصاية. وعلى رأس الذين نزلوا الى الشارع، كان أهل السنّة الذين انتفضوا أخيراً في وجه النظام الأمني المشترك الذي يتحمّل مسؤولية الجرائم الكثيرة التي ارتكبت في حق لبنان واللبنانيين، على رأسها جريمة اغتيال رفيق الحريري رمز العروبة الصادقة.
عندما يدرك النظام السوري هذا الواقع، يترتب عليه التعاطي معه بدل التعاطي مع الأوهام من نوع أن المحكمة ذات الطابع الدولي "تستهدف القضاء على المقاومة" في لبنان. عن أي "مقاومة" يتحدث هذا المسؤول السوري أو ذاك. لماذا لا توجد مقاومة في الجولان؟ ولماذا على لبنان تحمّل عبء تخاذل النظام السوري الذي ليس قادراً لا على الحرب ولا على السلام... نظام لا يعرف شيئاً غير ممارسة سياسة الابتزاز والصفقات على حساب لبنان والشعب الفلسطيني.
في النهاية، هناك موضوع وحيد حقيقي يُفترض في النظام السوري التعاطي معه. إنه موضوع المحكمة ذات الطابع الدولي في قضية اغتيال رفيق الحريري والجرائم الأخرى التي ارتكبت في حق أشرف اللبنانيين على رأسهم الشهداء الأحياء مروان حماده ومي شدياق والياس المرّ. نعم من حق الرئيس بشار الأسد أن يعتبر أن سوريا غير معنية بموضوع المحكمة. سوريا بشعبها الطيب شيء والنظام الذي يتحكم برقاب السوريين شيء آخر. النظام معني وسوريا ليست معنية. النظام كان مسؤولاً مع شركائه في لبنان عن كل شاردة وواردة على الأرض اللبنانية لدى وقوع جريمة العصر. وقد بذل هؤلاء الشركاء كل ما في استطاعتهم من أجل إزالة آثار الجريمة. ما يفعله "حزب الله" منذ ارتكاب الجريمة هو السعي الى محو آثارها. توظيف ميشال عون ومن على شاكلته جزء من العملية التي بدأت في الثامن من آذار 2005. وفي الإمكان القول إن التحضير لمحو آثار الجريمة بدأ مع الاستعدادات لاستحضار "بطل التحرير" من باريس. فشلت عملية إزالة آثار الجريمة التي استمرت مع افتعال حرب الصيف الماضي ذات النتائج المدمرة للبنان واللبنانيين ومع احتلال وسط بيروت والانسحاب من الحكومة ومحاولة خلق فتن بين المسيحيين أنفسهم وبين السنة والشيعة. فشلت لسبب في غاية البساطة. صمد اللبنانيون بكل فئاتهم وطوائفهم ولم يصدّقوا كلمة واحدة مما تقوله عناصر "حزب الله" وأبواقه. صمدوا لأنّهم يدركون أن الأزمة الحقيقية ليست في لبنان. إنها أزمة النظام السوري أوّلاً وأخيراً. نظام يحكم بالسجن على كاتب ومثقف مثل ميشال كيلو بعد إدانته بتهمة "إضعاف الشعور القومي". ما هذا الشعور القومي المتطور الذي سيضعفه ميشال كيلو؟ كيف يمكن لنظام "الممانعة" الخوف من ميشال كيلو؟
لا بدّ من تبسيط الأمور مرة أخرى. يعتقد النظام السوري أن تخريب لبنان سيحميه من المحكمة. لن يحميه شيء من المحكمة، لا حكومة ثانية ولا حكومة ثالثة برئاسة مأجور من هنا أو هناك. جريمة اغتيال رفيق الحريري في حجم جريمة احتلال صدّام حسين للكويت. لا داعي لتذكر كيف انتهى صدّام!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.