8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

توني بلير .. ولعنة العراق التي لن تفارقه!

يغادر توني بلير 10 دوانينغ ستريت مقر رئيس الوزراء البريطاني بعد عشر سنوات في السلطة تلاحقه لعنة العراق. سيجد بلير وظيفة في القطاع الخاص تدرّ عليه أضعافاً مضاعفة ما كان يدرّ عليه موقعه كرئيس للوزراء. إلاّ أن البريطانيين لن يتذكروا من رئيس الوزراء الشاب، الذي استطاع في العام 1997 وضع نهاية لحكم المحافظين الذي استمر ثمانية عشر عاماً، سوى أنه جاء لبلاده بنسمة هواء منعشة وغادر السلطة في ظلّ غيمة سوداء تخيم على بريطانيا... سببها حرب العراق!
لم يعرف البريطانيون رئيساً للوزراء يمتلك ذلك المقدار من البراغماتية، نظراً الى أن بلير العمالي الذي انتصر في ثلاثة انتخابات متتالية استخدم مارغريت تاتشر التي أعادت الحياة الى حزب المحافظين، في السبعينات من القرن الماضي، كي يهزم ثلاثة من الذين خلفوها على رأسهم جون ميجور. لم يتردد توني بلير في تغيير أسم حزب العمال الى "حزب العمال الجديد"، ليؤكد لكل من يعنيه الأمر أنه اتخذ قراراً بدفن الحزب القديم الذي يؤمن بالاشتراكية وأنه الخليفة الشرعي لمارغريت تاتشر الملقبة بـ"المرأة الحديدية" بانية بريطانيا الحديثة ومحطمة سطوة نقابات العمال على الحياة الاقتصادية البريطانية.
استطاع توني بلير الظهور بمظهر حامي إرث تاتشر. ولذلك كانت الشركات الكبيرة تدعمه، علماً أن هذه الشركات كانت تميل تقليدياً الى المحافظين. أكثر من ذلك، غيّر بلير الخريطة السياسية الداخلية في بريطانيا كلّياً معتمداً قبل أي شيء آخر على النجاح الاقتصادي للدولة العظمى والأمبراطورية التي لم تكن تغيب الشمس عنها في الماضي... وعلى القوانين الليبيرالية التي حولت لندن الى سوق مالي مهم إن لم يكن الأهم في العالم الى جانب نيويورك. لم يعد هناك شيئاً أسمه اشتراكية أو قوانين اشتراكية ولم يعد هناك نفوذ يذكر لنقابات العمال التي قمعها حزب العمال في عهد بلير على الطريقة التاتشرية!
وظَف توني بلير في الليبيرالية وفي توفير ضمانات لكل من يستثمر في بريطانيا أو يعمل فيها. ولذلك نجد في لندن اليوم عشرات آلاف العائلات الفرنسية التي يعمل أربابها في ظروف أفضل بكثير من تلك المتوافرة في باريس أو المدن الفرنسية الأخرى.
سمح النجاح الاقتصادي لبلير بتجاوز أزمات وفضائح كثيرة بما في ذلك تلك التي تناولته شخصياً مع زوجته أو تلك التي كان أبطالها من القريبين منه مثل صديقه الشخصي الوزير بيتر مندلسون الذي أضطر في كانون الثاني من العام 2001 الى الاستقالة من الحكومة للمرة الثانية والأخيرة بعدما تبين أنه تدخل لتمكين رجل أعمال كبير من أصل هندي (سيرشاند هيندوجا) من الحصول على جواز بريطاني... استقال مندلسون، ووجد له بلير موقعاً في الاتحاد الأوروبي ولم تتأثر شعبية رئيس الوزراء الذي تبين أنه أرتكب بدوره مخالفات كثيرة تغاضى عنها البريطانيون ما دام الاقتصاد بخير وما دامت الضرائب في حدود معيّنة، أي في الحدود التي رسمتها تاتشر بعد توليها السلطة في العام 1979.
جديد الأسابيع القليلة الماضية أنّ البريطانيين بدأوا يظهرون نوعاً من التضايق من بلير الذي كان وعد في الماضي بأنه لن يبقى في موقع رئيس الوزراء حتى نهاية ولايته الحالية وحلول موعد الانتخابات العامة في السنة 2009. كان مطلوباً أن يسلم بلير موقعه لوزير المال غوردون براون، لكنه ماطل في ذلك. الآن، يبدو أن الكيل طفح وأنه إذا كانت عشر سنوات في السلطة لم تهدد وضع بلير، فإن القلق الشعبي حيال الوضع العراقي بدأ يؤثر عليه. صار هناك مسؤولون بريطانيون يسعون الى ايجاد مسافة بينهم وبين رئيس الوزراء. أحد هؤلاء جيف هون وزير الدفاع إبان الحرب على العراق. في مقابلة له نشرتها صحيفة "ذي غارديان" قبل أيام تحدّث هون عن سوء تقدير الحكومة البريطانية للوضع العراقي، خصوصاً في مرحلة ما بعد سقوط نظام صدّام حسين. قال هون، الذي لا يزال وزيراً للشؤون الأوروبية في الحكومة الحالية، إن البريطانيين ارتكبوا أخطاء إذ كانوا يعتقدون أنّهم سيستقبلون بالورود في العراق. ولم يحمّل بلير وحده المسؤولية عن هذه الأخطاء، بل أشار الى خلاف حصل بين حكومته من جهة والإدارة الأميركية من جهة أخرى في شأن قراري حلّ الجيش العراقي واجتثاث حزب البعث من جذوره.
ما يكشفه كلام هون، أن هناك رغبة لدى كثيرين من المسؤولين في عدم تغطية المغامرة العراقية لبلير كما كان يحصل في الماضي عندما استقال الوزير روبن كوك من الحكومة احتجاجاً على الحرب. وقتذاك، أي في آذار من العام 2003 تاريخ بدء الحملة العسكرية على العراق، لم يتأثر بلير، بل وجد على وجه السرعة من يحل مكان كوك الذي توفي لاحقاً وفي قلبه حسرة خلقتها حرب العراق...
في بريطانيا، كما في العالم يقفز السياسيون من السفينة حين يتأكد لهم أنها تغرق. السياسيون في بريطانيا يريدون أن يغرق توني بلير وحده لا أن يغرقهم معه. إنها نهاية سياسي محنّك بلغت به الانتهازية أن يخوض الانتخابات ببرنامج خصومه وأن يستمر في الربح مقلّداً هؤلاء الخصوم. يبقى الفارق الأساسي بين بلير وتاتشر أن الأخيرة ربحت حرب العراق الأولى التي اقتصرت على تحرير الكويت من الاحتلال. من الآن، يتكهن عسكريون أميركيون كبار بأن الحرب الأميركية ـ البريطانية على العراق كانت حرباً خاسرة. لن يذكر التاريخ بلير بسبب الإنجازات الكثيرة التي حققها وآخرها اتفاق سلام في ايرلندا الشمالية. سيظل أسمه مرتبطاً بالعراق، بلعنة لن تفارقه، بحرب يقول الجنرال مايكل روز قائد القوات الخاصة البريطانية الى ما قبل فترة قصيرة، إنها "انتهت بهزيمة" بريطانية وأميركية وأن على "الغزاة" مغادرة العراق!

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00