ما هي الرسالة التي يريد النظام السوري توجيهها إلى العرب والعالم من خلال الأحتلال الذي يمارسه "حزب الله" وأدواته المستأجرة لوسط بيروت؟ الرسالة في غاية الوضوح نظراً إلى أن الأعتصام يندرج في سياق سلسلة من الأحداث المترابطة. بدأت السلسلة، التي مهّد لها التمديد القسري لولاية الرئيس اميل لحّود ومحاولة اغتيال الوزير مروان حماده، باغتيال الرئيس رفيق الحريري لتأكيد أن لبنان أمّا يكون تحت الوصاية السورية أو لا يكون وأن لا مشروع لبنانياً للبنان. تمثّلت الخطوة التالية للزلزال الذي أحدثه اغتيال الحريري بسلسلة من الاغتيالات والتفجيرات استُهلّت باستهداف الزميل الحبيب سمير قصير وانتهت بالشهيد الرمز بيار أمين الجميّل الذي كرّس حياته من أجل عودة الشباب اللبناني الى أرضه ووطنه. وبين اغتيال الحريري وبيار الجميّل، افتعل "حزب الله" حرب الصيف لتمكين اسرائيل من تدمير ما تستطيع تدميره من البنية التحتية،أي من مشروع الانماء والاعمار الذي كان وراءه رفيق الحريري. لم يكن مسموحاً استمرار مشروع اعادة الحياة الى لبنان بعد التخلّص من رفيق الحريري. تابع النظام السوري ضغطه بعدما تبيّن له أن لبنان يقاوم وأنّه استطاع التقاط أنفاسه حتى بعد حرب الصيف. لذلك كان لا بدّ من تحرّك جديد يذهب على اثره الرئيس بشّار الأسد الى قمة الرياض ليعزو كلّ مشاكل لبنان، بما في ذلك المحكمة ذات الطابع الدولي الى الخلافات القائمة بين اللبنانيين. ولهذا السبب وليس لغيره، كان الاعتصام في وسط بيروت، قلب مشروع رفيق الحريري.
يواجه المخطط السوري، الذي بدأ باغتيال الرئيس رفيق الحريري وسلسلة الجرائم التي تلت ذلك وصولاً الى استكمال الحرب الاسرائيلية على لبنان عن طريق الاعتصام في وسط بيروت، مقاومة لبنانية حقيقية. يكفي أن حكومة فؤاد السنيورة لا تزال صامدة ويكفي أن هناك اجماعاً بين اللبنانيين الشرفاء على رفض صيغة ما يسمّى 19ـ11 التي لا تستهدف سوى ايجاد فراغ في البلد في ظلّ وجود رئيس غير شرعي للجمهورية، أقلّه من وجهة الأسرة الدولية، وفي ظلّ عملية مصادرة علنية لمجلس النوّاب الذي قرّر رئيسه أن يعطّله آملاً في أن ينجح لاحقاً عبر صيغة 19ـ11 في تعطيل الحكومة.
الموضوع ليس موضوع لبنانيين يقفون في وجه لبنانيين. الموضوع موضوع العودة الى مجلس النوّاب، الى المكان الذي يفترض أن تناقش فيه المعارضة العمل الحكومي وأن تكون رقيباً عليه ليس الا بدل السعي الى تعطيل الحياة السياسية في البلد على غرار ما هي معطّلة في سورياّ. ولكن ما العمل عندما يكون الرئيس السوري غير قادر على السماع باسم المحكمة ذات الطابع الدولي ويريد نسفها من أساسها مستخدماً اللبنانيين ومتذرّعا بالخلافات القائمة بينهم؟
ان التوجّه السوري في لبنان لا يبشّر بالخير، خصوصاً أنّه يعتمد على أساليب قديمة كانت تصلح في القرن الماضي. لم تعد هذه الأساليب تنطلي على أحد، ذلك أن العالم كلّه يعرف أن سلاح المقاومة في لبنان صار موجّهاً الى اللبنانيين بعدما أغلقت جبهة الجنوب وقررت الأسرة الدولية، على رأسها الاتحاد الأوروبي وحتى دول اسلامية مهمّة مثل تركيا، تنفيذ القرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة وحمايته. ولكن ما العمل مع نظام يعتقد أنّ في استطاعته اصلاح الخطأ بخطأ أكبر منه وتغطية الجريمة التي يرتكبها بجريمة أكبر منها؟ ما العمل مع نظام لا يدرك أن ازدهار بيروت ازدهار لدمشق والعكس صحيح وأن لبنان المعافى، لبنان الديموقراطي، متنفّس لسوريا والسوريين مثلما أنّه نعمة للبنان واللبنانيين؟
مؤسف أننا نعيش في لبنان منذ سنوات عدّة أزمة النظام السوري الذي تحوّل الى رجل المنطقة المريض. هل من علاج للأزمة؟ الجواب: نعم، ولكن في حال أدركت القيادة السورية أنّ عليها تغيير تصرّفاتها بشكل جذري وأن اثارة قضية الميليشيات السنّية المتطرفة من "فتح الاسلام" وغير "فتح الاسلام" ليست سوى مناورة مكشوفة، خصوصاً أن الطفل بات يعرف أن كلّ السلاح غير الشرعي الموجود في لبنان مصدره واحد. أنّه سلاح يمر عبر الأراضي السورية، أكان من ايران أو من غير ايران... أكان مرسلاً الى ميليشيا "حزب الله" الشيعية أو الى التنظيمات السنّية المتطرفة من كلّ الاشكال والألوان أو الى هذا الحزب اللبناني أو ذاك.
لا يُعتبر الحديث السوري عن "خطورة الميليشيات السنّية" في لبنان سوى محاولة فاشلة للتغطية على عدم قدرة دمشق على التعاطي مع قضية المحكمة ذات الطابع الدولي. كم من الجرائم والتفجيرات سترتكب في مرحلة ما بعد القمّة العربية بسبب تمسّك لبنان واللبنانيين بالمحكمة ذات الطابع الدولي؟ كم شهيداً سنودّع بسبب المحكمة ذات الطابع الدولي؟ كم سترسل دمشق أسلحة الى لبنان بسبب المحكمة ذات الطابع الدولي؟ كم عدد الميليشيات التي ستفرّخ بحجة أن المطلوب حتى تدمير بيروت على رؤوس اللبنانيين تفادياً للمحكمة؟ كم عدد العصابات المسلّحة التي ستولد على يد الأجهزة السورية من أجل السعي الى تهديد القوة الدولية الموجودة في الجنوب لحماية الجنوبيين أولاً من اي أعتداء اسرائيلي، في حال تشكيل المحكمة؟
لا تكمن مشكلة النظام السوري في أنّه مريض فحسب، بل تكمن في أنّه برفض الذهاب الى الطبيب أيضاً لفهم حقيقة مشكلته. أنّه يتحجج بأنّه نظام "الممانعة" الذي يقف في وجه المشروع الأميركي في المنطقة. ربّما كانت الممانعة الوحيدة التي يمارسها هي في وجه رفض الاعتراف بالمرض الذي يعاني منه... مرض المحكمة ذات الطابع الدولي!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.