كان أكثر من طبيعي وصول الامور بين السلطة الوطنية والحكومة الفلسطينية الى ما وصلت اليه، اي الى مرحلة المواجهة المكشوفة. كان ذلك طبيعيّاً، ما دامت الحكومة التي شكّلتها "حماس" تعتبر ان من حقّها تنفيذ برنامجها السياسي الذي لم يؤد، اقلّه الى الان، سوى الى تجويع الشعب الفلسطيني وافقاره وافقاده اي قدرة على ان تكون لديه المبادرة السياسية. الاكيد ان ليس من حق المعترضين على الحكومة عمل ما عملوه في رام الله حيث ظهروا يوم الاحد الماضي في مظهر الغوغاء خصوصاً حين راحوا يحطمون ويحرقون كلّ ما وصلت اليه ايديهم في مقر مجلس الوزراء وغيره من المؤسسات الحكومية. هل بين الذين شاركوا في الشغب من يتذكّر بأنّ المؤسسات التي احرقت واعتدي عليها مؤسسات فلسطينيّة اوّلاً واخيراً بنيت باموال الشعب الفلسطيني.
ما يمكن قوله عن الذين تصرّفوا بهذه الطريقة الهمجيّة في رام الله هو ان لا شيء يفرّق بينهم وبين ميليشيات "حماس" التي سعت إلى الحلول مكان السلطة الوطنيّة في غزّة. هذه الميليشيات التي اظهرت بشكل واضح انّ ثمة من يسعى الى ابلاغ العالم انّ الشعب الفلسطيني لا يستأهل دولة مستقلة وانّ ليس في استطاعته ادارة شؤونه وهو لا يشكّلّ خطراً على الآخرين فحسب، بل انّه يشكّل خطراً على نفسه ايضاً. من سمع ان هناك مكاناً في العالم، باستثناء العراق الجديد الذي هو نتاج الاحتلال الاميركي بامتياز، يشكلّ فيه وزير من الوزراء ميليشيا خاصة به على غرار ما فعل وزير الداخلية الفلسطيني؟
كان تدخلّ الرئيس الفلسطيني السيّد محمود عبّاس (ابو مازن) في مكانه وذلك عندما حذّر في كلمة وجهها الى مواطنيه من عمان قبل عودته الى الاراضي الفلسطينية من عواقب "الفتنة" ومن خطورة تجاوز "الخطوط الحمر" فلسطينياً عبر السقوط في فخّ الاقتتال الداخلي. مثل هذا الاقتتال لا يفيد احداً غير اسرائيل ومخططات الاحتلال. ومن هذا المنطلق، ليس امام الجانب الفلسطيني سوى معاودة الحوار بحثاً عن منطق سياسي يقود الى اعتماد لغة موحّدة في التعاطي مع العالم. هل مثل هذه اللغة موجودة؟ نعم انّها موجودة وفي متناول اليد نظراً الى وجود شيء اسمه قرارات الشرعية الدولية التي وافق عليها الفلسطينيون عبر منظمة التحرير ووافق عليها العرب. وفي حال ليس في استطاعة حكومة "حماس" الذهاب الى حدّ الموافقة على ما يطلبه منها العرب والعالم، ما عليها سوى ان تترك السياسة لحكومة قادرة على التعاطي مع الواقع بدل الاستمرار في الرهان على الاوهام.
بصراحة متناهية، ليس امام "حماس" سوى القبول بالواقع في حال كانت تسعى بالفعل الى تفادي مزيد من التدهور على الصعيد الداخلي الفلسطيني. ان العودة عن الخطأ فضيلة. والاهم من ذلك ان الخطأ لا يعالج بخطأ آخر على غرار ما يمارسه النظام السوري الذي يسعى الى تغطية كلّ جريمة يرتكبها بجريمة افظع بادئاً بجريمة التمديد للرئيس اللبناني اميل لحّود. ما يفترض ان تكون "حماس" اكتشفته اخيراً ان اسرائيل انسحبت من غزة من جانب واحد نظراً الى حسابات خاصة بها، وانّ هذا الانسحاب ليس انتصاراً فلسطينياً في ايّ شكل. الانتصار كان يمكن ان يحصل لو تصرّف الجانب الفلسطيني بحكمة وحوّل القطاع منطقة آمنة ومكاناً يعيش فيه الفلسطينيون في ظلّ حدّ ادنى من الاستقرار وليس في حماية هذه العصابة المسلّحة او تلك. كان الفشل الاوّل لـ"حماس" في غزة التي وجد من يقنعها بانّ القطاع يمكن ان يكون نقطة انطلاق لتحرير فلسطين بدل العمل انطلاقاً منه على افشال الخطة الهادفة الى تكريس الاحتلال لجزء من الضفة الغربيّة معتمدة السياسة في مواجهة الارهاب الاسرائيلي.
مرة اخرى، اخطأ انصار "فتح" الذين هاجموا مؤسسات رسمية في رام الله غير مدركين ان هذه المؤسسات ليست ملك "حماس" بمقدار ما هي ملك الشعب الفلسطيني. لكنّ ما يبدو ضرورياً أكثر من ايّ وقت في هذه المرحلة ان تعلن الحركة الاسلامية، التي شكّلت حكومة اقتصرت على اعضائها بعد فوزها في الانتخابات التشريعية الاخيرة، ان اسباب الفشل الفلسطيني الذي تسبّبت فيه لا تعود الى انّ "حماس" لا علاقة لها بالواقع فحسب. ان الفشل الفلسطيني يعود ايضاً الى فوضى السلاح التي اعتبرت "حماس" انها جزء من عملية تحرير فلسطين بواسطة صواريخ "القسّام" المضحكة ـ المبكية او بواسطة ميليشيا خاصة بوزارة الداخلية تطلق النار على متظاهرين...
في غياب القدرة على ضبط الوضع والسيطرة عليه سريعاً بعد سقوط هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى في غزة وردود الفعل الهمجية في رام الله وبعد عمليات الخطف التي تستهدف مسؤولين حكوميين، لم يعد في الامكان القول ان الموضوع مجرّد موضوع رواتب لم تدفع او حكومة يجب ان ترحل. الموضوع يختصر بسؤال في منتهى البساطة: هل يمكن وضع حدّ نهائي لفوضى السلاح التي ادت الى بداية حرب اهلية في غزة واعلان "فتح" سيطرتها على الضفة الغربية وسحب اعترافها بحكومة "حماس". الموضوع أكبر واخطر بكثير مما يعتقد. صار مستقبل القضية الفلسطينية على المحك لا أكثر ولا اقل... والبقية تفاصيل!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.